بثّت قناة Arte الفرنسية-الألمانية مساء 15 ديسمبر 2025 فيلمًا وثائقيًا بعنوان "السيسي: فرعون مصر الجديد"، وهو عمل يمتد لنحو 54 دقيقة، ويقدّم قراءة نقدية معمّقة للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر تحت حكم عبد الفتاح السيسي. ويخرج الوثائقي عن إطار التغطيات الإعلامية التقليدية، ليضع السلطة المصرية في مرمى نقد سياسي واقتصادي حاد، مستخدمًا أدوات تحليلية تجمع بين المشاهد الميدانية والشهادات المباشرة والقراءة التاريخية. ويقدم الوثائقي قراءة نقدية شاملة لحكم السيسي، عبر رصد الفقر ومناخ الخوف، إبراز التناقض بين المشاريع العملاقة والواقع الاقتصادي، وتحليل البعد الفرعوني للسلطة، وكشف الهيمنة العسكرية على الاقتصاد والدولة. ويطرح تساؤلات حول جدوى النموذج التنموي القائم، محذرًا من أن مصر تقف على حافة انفجار اجتماعي إذا استمر هذا المسار.
ويضع الوثائقي السلطة المصرية تحت مجهر النقد السياسي والاقتصادي، ويكشف بوضوح أن الأزمة ليست في الأرقام أو المشاريع وحدها، بل في طبيعة النظام نفسه الذي يعيد إنتاج نموذج سلطوي مركزي يفتقر إلى العدالة والشفافية.
الفقر ومناخ الخوف ويركّز الفيلم على تدهور مستويات المعيشة واتساع رقعة الفقر في الشارع المصري. عبر مقابلات مع مواطنين ومعتقلين سابقين، يظهر بوضوح أن هناك مناخًا من الخوف يسيطر على المجتمع، حيث فضّل بعض المتحدثين إخفاء هوياتهم والتحدث بأصوات منخفضة خشية الملاحقة. هذه المشاهد تُظهر أن الأزمة ليست اقتصادية فقط، بل ترتبط أيضًا بالقيود السياسية والأمنية التي تحد من حرية التعبير وتزيد من شعور المواطنين بالعزلة والقلق.
العاصمة الإدارية الجديدة ويسلّط الوثائقي في مقابل صور الفقر، الضوء على العاصمة الإدارية الجديدة باعتبارها رمزًا صارخًا للتناقض بين مشاريع عملاقة ذات طابع فخم وبين واقع اقتصادي مأزوم. المدينة الجديدة، التي تُبنى في الصحراء بأسلوب معماري يذكّر بدبي، تُقدَّم كإنجاز ضخم، لكنها في نظر الفيلم تعكس أولويات إنفاق مشكوك فيها.
ويقول إنه بينما تتراكم الديون وتتصاعد معدلات التضخم، تُضخ الموارد في مشاريع استعراضية لا تنعكس على حياة المواطنين اليومية. وفق بيانات صندوق النقد الدولي، أصبحت مصر ضمن أكثر دول العالم مديونية، وهو ما يثير تساؤلات حول جدوى هذه المشاريع في ظل تراجع القدرة الشرائية وتآكل الطبقة الوسطى.
الفرعونية كأداة تحليلية ووظف الوثائقي البعد التاريخي للفرعونية كأداة لفهم طبيعة النظام الحالي حيث يرى أن النظام يعيد إنتاج صورة الفرعون كقائد مركزي مطلق الصلاحيات، تُبرَّر باسمه المشاريع الكبرى دون رقابة مجتمعية أو نقاش عام. ولا يقتصر هذا التشبيه على الجانب الرمزي، بل يمتد إلى البنية السياسية التي تضع السيسي في موقع السلطة المطلقة، حيث تُدار الدولة وفق منطق مركزي يهمّش المؤسسات المدنية ويعزز دور المؤسسة العسكرية.
الهيمنة العسكرية
ويكشف الوثائقي عن الهيمنة الواسعة للمؤسسة العسكرية على مفاصل الدولة والاقتصاد. لم تعد أدوار الجيش مقتصرة على الدفاع، بل امتدت إلى قطاعات استراتيجية تشمل البنية التحتية، الموانئ، قناة السويس، التشييد العمراني، والمشروعات القومية الكبرى. ويعكس هذا التوسع نموذجًا للدولة العسكرية التي تسيطر على الموارد وتوجّهها وفق أولوياتها، ما يضعف الحوكمة المدنية ويحد من فرص المشاركة المجتمعية.
شهادات وتحليلات دولية وكضيوف للحديث عن السيسي استضاف الفيلم عددًا من الشخصيات السياسية والتحليلية البارزة:
فرانسوا هولاند، الرئيس الفرنسي السابق، الذي أشار إلى أن الإدارة العسكرية تطغى على المشهد السياسي والإداري في مصر.
مهندس فرنسي شارك في تنفيذ أنفاق قناة السويس، تحدث عن إدارة الجيش للمشروعات بميزانيات مفتوحة ومنطق «الإنجاز السريع مهما كانت التكلفة»، ما يعكس غياب النقاش الاقتصادي والاجتماعي.
معتقلون سابقون عرضوا شهادات عن أوضاع الاحتجاز، في إطار ما وصفه الفيلم بمنظومة قمعية تهدف إلى إحكام السيطرة السياسية.
محللون سياسيون مثل يزيد صايغ ناقشوا طبيعة النظام المصري وعلاقته بالقوى الدولية، التي ترى في القاهرة شريكًا إقليميًا رغم الانتقادات الحقوقية، ما يعكس التناقض بين المصالح الدولية والاعتبارات الحقوقية.
الاقتصاد الهش والتمويل الخارجي
واقتصاديًا، يوضح الفيلم أن مصر تعتمد بشكل متزايد على التمويل الخارجي من صندوق النقد الدولي، الاتحاد الأوروبي، ودول الخليج، لسد العجز المالي وتغطية احتياجات ميزان المدفوعات. لكن هذا التمويل لا ينعكس على حياة المواطنين، إذ يظل النمو المعلن بعيدًا عن الواقع اليومي للناس الذين يكافحون لتغطية أساسيات المعيشة. هذا الوضع يطرح سؤالًا وجوديًا: هل يمكن لنظام يراكم الديون ويضخ الموارد في مشروعات استعراضية أن يستمر في ظل تآكل الطبقة الوسطى واتساع الفجوة الاجتماعية؟ وخلص الوثائقي إلى أن استمرار هذا المسار ينذر باضطرابات اجتماعية وانفجار شعبي محتمل. فالنموذج القائم على البهرجة وتركيز الثروة والسلطة على حساب العدالة الاجتماعية والحوكمة الرشيدة وحقوق الإنسان، يضع مصر في موقع خطير. الفيلم يصف مصر أنها بلد يقف على حافة الانفجار، محذرًا من أن الفوارق المتسعة بين المشاريع الفارهة والواقع الشعبي قد تؤدي إلى شرخ اجتماعي يصعب احتواؤه. ولا يقدم الوثائقي مجرد تقارير أو مشاهد من الواقع المصري، بل يؤسس لتحليل منهجي لفشل نموذج التنمية الذي اختارته السلطة. النموذج يرتكز على البهرجة والعلاقات الدولية والاستئثار بالثروات، بينما يغيب عنه الاهتمام بالعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. النقد الذي يقدمه الفيلم ليس فقط سياسيًا، بل اقتصاديًا واجتماعيًا أيضًا، حيث يربط بين القمع السياسي والاختلال الاقتصادي، ويكشف كيف أن الهيمنة العسكرية تضعف الحوكمة وتمنع أي صوت معارض أو نقد داخلي.