عاد الهدوء النسبي إلى شوارع العاصمة الليبية طرابلس السبت، بعد ليلة من الفوضى بين قوات الأمن ومتظاهرين خرجوا للمطالبة بإسقاط حكومة الوحدة الوطنية، في مشهد يعكس تصاعداً متسارعاً للأزمة السياسية التي اشتدت منذ أيام، بينما لا يزال المجلس الرئاسي منعقداً في اجتماع مفتوح منذ ليل الجمعة، في محاولة لإيجاد مخرج للأزمة التي تفاقمت مع تحول الاحتجاجات السلمية إلى فوضى أمام مقر رئاسة الوزراء، تخللها إطلاق الرصاص. وبعد تجمع متظاهرين في ميدان الشهداء وسط طرابلس، مساء أمس الجمعة، للاحتجاج على الأحداث الدامية التي شهدتها المدينة في الأيام الماضية، وسط مطالبات بإسقاط كل الأجسام السياسية الحالية والذهاب إلى الانتخابات، مع تركيز الهتافات على المطالبة برحيل حكومة الوحدة الوطنية، وتحميلها مسؤولية الاقتتال الذي دار الأربعاء ليلاً، توجه جزء من المتظاهرين نحو مقر رئاسة الوزراء للمطالبة بإسقاط الحكومة، لكن المظاهرة تخللها إطلاق رصاص مجهول، لتتحول إلى مواجهات مع قوات الأمن المسؤولة عن حراسة مقر رئاسة الوزراء والمتظاهرين، الذين اقتحموا المقر وكسّروا واجهاته.
وفي غضون ذلك، كان أعضاء المجلس يجرون، خلال اجتماعهم، اتصالات مكثفة مع أطراف محلية ودولية للوصول الى مخرج للأزمة. وفيما أكدت مصادر مقربة من المجلس الرئاسي ل"العربي الجديد" استمرار الاجتماع المفتوح للمجلس، لفتت إلى أنه لم ينتهِ إلى شيء حتى الآن، فيما دار النقاش حول أسماء بديلة لرئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، مثل نائب رئيس المجلس الرئاسي عبد الله اللافي، وعضو مجلس النواب حمودة سيالة، وسط رفض الدبيبة مغادرة منصبه. واستبعدت المصادر نفسها إصدار المجلس الرئاسي مرسوماً بإسقاط الحكومة كلياً، مشيرة إلى تحذيرات دولية من فقدان الاعتراف الدولي الذي تتمتع به الحكومة الحالية، وصعوبة تعويضها بحكومة بديلة قد تعجز لفترة طويلة عن إدارة ملفات حساسة، مثل تصدير النفط، وتسييل المصرف المركزي لأموال رواتب المواطنين.
وفيما كان المجلس الرئاسي منشغلاً بالبحث عن مخارج سياسية، أصدرت الحكومة بياناً مرفقاً بفيديو يظهر مشاهد الأضرار التي لحقت بمقر رئاسة الوزراء، مؤكدة دخول من وصفتهم ب"المندسين" بين المتظاهرين، قائلة إنها أحبطت محاولة اقتحام مبنى رئاسة الوزراء من قبل هؤلاء "المندسين" الذين أطلقوا النار على حراس المبنى، ما أدى إلى مقتل أحدهم.
ولم يكن التصعيد أمام مقر رئاسة الوزراء التحدي الوحيد الذي واجهته حكومة الدبيبة ليل أمس الجمعة، فقد توالت استقالات سبعة وزراء، هم وزراء الحكم المحلي بدر الدين التومي، والإسكان والإعمار أبو بكر الغاوي، والاقتصاد محمد الحويج، والموارد المائية محمد قنيدي، قبل أن يلحق بهم في وقت متأخر من ليل أمس وزير النفط والغاز محمد عون، ووزيرة الثقافة مبروكة توغي، وعدد آخر من وكلاء الوزارات، بالإضافة إلى نائب رئيس الوزراء رمضان أبو جناح.
وحاولت الحكومة احتواء التداعيات ببيانين متلاحقين في ساعات تصاعد الأوضاع، حيث أكدت في الأول حق التظاهر السلمي، وأوضحت فيه رؤيتها للحل، "بأن تحقيق الاستقرار الدائم في ليبيا يمر عبر إنهاء جميع الأجسام التي جثمت على السلطة منذ أكثر من عقد، وأسهمت في إطالة أمد الانقسام السياسي وتعطيل بناء الدولة"، في إشارة إلى ضرورة إسقاط كل الأجسام السياسية في المشهد الليبي، فيما حاولت في الثاني الحد من تأثير استقالات الوزراء، إذ قالت إن "ما ينشر بشأن استقالة وزراء ووكلاء لا يعكس الحقيقة، والوزراء كافة يواصلون عملهم بصفة طبيعية"، وإن "أي قرارات رسمية تصدر حصرياً عبر القنوات المعتمدة، وليس من خلال منشورات غير موثوقة". من جهته، أعلن خالد المشري، بصفته رئيس المجلس الأعلى للدولة، انحيازه لمطالب المحتجين في إسقاط الحكومة، داعياً رئيس مجلس النواب عقيلة صالح إلى تشكيل حكومة بديلة خلال 48 ساعة، الأمر الذي قابله صالح باستجابة سريعة، معلناً بدء تنسيق "عاجل" لاختيار شخصية وطنية لتشكيل حكومة جديدة، في إحياء واضح لتحالف سياسي بين المجلسين. لكن الأكاديمي وأستاذ العلوم السياسية حسن عبد المولى، يرى في حديثه مع "العربي الجديد"، أن هذه الخطوات تواجه عقبات دستورية وقانونية جمة، موضحاً أن اتفاق الحوار السياسي لعام 2021 أنشأ السلطة التنفيذية الحالية من شقين: مجلس رئاسي وحكومة، ولم يمنح المجلس الرئاسي صلاحية عزل رئيس الحكومة، كذلك إن أي اتفاق بين مجلسي النواب والدولة سيكون عرضة للطعن القضائي بسبب عدم تمثيل المشري لرئاسة مجلس الدولة، المختلف حول نتائج انتخاباتها حتى الآن.
ويضيف عبد المولى في حديثه مع "العربي الجديد"، أن الأجسام السياسية كافة تستمد شرعيتها من الاتفاقات السياسية، وتلزمها بالتنسيق مع البعثة الأممية في أي تغيير سياسي، كذلك إن قرارات مجلس الأمن تحصر الإشراف على أي عملية سياسية في البعثة الأممية، وكل هذا يعرقل الاتجاه الحالي لمجلسي النواب والدولة في اتجاه تعيين بديل للدبيبة، الذي يعاني هو الآخر وضعاً صعباً، يجعل استمراره في منصبه "شبه مستحيل، ولا سيما مع تورط قوات موالية لحكومته في أعمال العنف الأخيرة".
وعلاوة على موقع الدبيبة رئيساً للحكومة، يلفت عبد المولى إلى صعوبة أخرى تتعلق بتنحيته، وتتعلق بوزارة الدفاع، المرتبطة مباشرةً بملف السلاح ومن يحمله في ليبيا، التي يتولاها الدبيبة، مضيفاً: "تبرز إشكالية هذه الوزارة في صعوبة التوافق على شخصية تشغلها، ولا بد من حل إشكالية وزارة الداخلية التي يتولاها عماد الطرابلسي، قائد أكبر التشكيلات المسلحة في طرابلس، التي شاركت في الأيام الماضية في المواجهات المسلحة، وانسحاب الدبيبة سيشعر الطرابلسي بالقلق على وضعه".
ولا تقتصر التعقيدات على الجانب السياسي فحسب، فالمشهد الأمني الهش يلقي بظلاله على كل الحلول المطروحة، وفق رأي عبد المولى، الذي يلفت إلى أن التشكيلات المسلحة الموالية للدبيبة في طرابلس، تحتاج إلى ضمانات أمنية قبل أي تغيير، معتبراً أن هذا الواقع يفسر سبب قدرة الدبيبة على التمسك بمنصبه، رغم الضغوط.
وفي الوقت الذي يرى فيه عبد المولى أن الأزمة الحكومية بكل تشابكاتها فتحت الأوضاع على كل الاحتمالات، إلا أنه يعتبر، في الوقت نفسه، أنها قد تطوي المسافة للمبادرة الأممية التي تطرح مناقشات واسعة حول القضايا الخلافيات في القوانين الانتخابية، موضحاً أن "الانقسام الحكومي أشد القضايا الخلافية، وموافقة صالح على التغيير يعني قبوله بإنهاء الحكومة في بنغازي، ما يسهّل الاتجاه نحو إنهاء الأزمة الحكومية إذا أُديرت الأوضاع بحكمة وتروٍّ، وعولجت المسائل المتصلة بالدبيبة والتشكيلات المسلحة، وقد تساعد الاستقالات في الحكومة الحالية على إعادة تشكيلها بوضع مصغر".