عاد بنا "ميثاق الشرف الأخلاق" الذي انبثق مؤخرا عن بيان القاهرة، عاد إلى الفكرة الحلم التي طالما ارتقبها كثيرون؛ وهي أن تصبح الأخلاق أوعية للممارسات السياسية؛ وتبدو أن الجهود السياسية الدائرة حاليا والتي تصدرتها مجموعة من الشخصيات العامة والمستقلة بينها السفير إبراهيم يسري والدكتور سيف الدين عبد الفتاح، يبدو أنها ترغب ليس فقط في كسر الانقلاب؛ وإنما في استحضار الروح القيمية في الحركة الثورية والسياسية والتي غاب الكثير منها عن المشهد في الفترة الماضية. أولا: السياق يجدر بنا هنا قراءة السياقات السياسية المحيطية بالميثاق الأخلاقي من أكثر من وجهة نظر؛ فهو بداية من -قبل الانقلاب- يأتي في ظل سياق إقصائي استعلائي؛ يستخدم أدوات القهر والقمع ومصادرة الحريات وتكميم الأفواه، يمهد لأن يكون في البلاد صوت واحد في تراجع شديد لأية آليات ديمقراطية وفي اختفاء صريح ومباشر للحريات والحقوق التي شهدها العام من حكم الرئيس مرسي. ويختتم المشهد الانقلابي الحال بمحاولة إضفاء الشرعية المزيفة على من لا شرعية له ليبدو الأمر وكأنه يسير في خط واضح. ولكن السياق من جهة قوى الثورة يقول إن الانقلاب صار في مأزق سياسي عالمي حقيقي؛ وذلك بعد أن فشلت المسرحية الهزلية لانتخابات رئاسة الدم، وأعلن الشعب بمقاطعته سقوطا مدويا لخارطة الطريق الانقلابية، وبعد أن سمحوا لقائد الانقلاب بتصدر المشهد وحده وكأنه الزعيم الأوحد؛ في حين أنه يثبت في كل خطاب أو حديث أو حتى توجه جماهيري عام أنه شديد السطحية والسوقية بلا خطة أو منهج أو رؤية أو حتى قدرة على الحديث المنمق ليعطي بعض القناعة والمصداقية لمن يعملون خلفه؛ أي أن قائد الانقلاب بوجوده المباشر قد وضع الكثير من القوى الداعمة للانقلاب في حرج حقيقي؛ فهناك بداية قوى ساندته في حين أنها لم تكن تسعى لانقلاب دموي، وقوى أخرى ساندته وكانت تريد تصدر المشهد بوجه مدني ليبرالي لا عسكري، كل هؤلاء الآن في مأزق شديد من تصدر السيسي وإزاحته الجميع. الأمر الآخر على مصاف القوى الثورية؛ هو أنه وبخلاف القوى الموجودة في الشارع الرافضة للانقلاب منذ ما يقرب من عام، هناك الكثير من القوى الأخرى وبعد أن باتت تعاني هي أيضا ولم تجد مصالحها قد تحققت بل خسرت كل ما تحقق لها بثورة يناير، هؤلاء الفرقاء الآن بات من الواضح إمكان التحامهم على أمر واحد شامل جامع وهو إسقاط الانقلاب وإعادة المسار الديمقراطي، فحتى وإن بدت بينهم بعض الخلافات لكن مجرد توحد فرقاء الثورة هي الخطوة الأهم والتي كان يخشاها الانقلاب بل وتسلل منها ليفوز بمآربه. وفي مثل تلك السياقات التي تبدو فيها أخطاء الانقلاب واضحة للجميع، ومن جهة أخرى تبادر القوى الثورية للإلف والاتحاد، يأتي ميثاق الشرف ليمثل عالم القيم الموازي للبيانات والخطابات السياسية التي تتحدث في نقاط محددة، ولكن تعود هنا الأخلاق لتكون حاضنة لتصالحات السياسيين والثوار. ثانيا: المقاصد ومن بين سطور ميثاق الشرف يمكننا استنتاج مقاصد كلية واضحة، من بينها: 1- الرغبة الحقيقية في الوحدة والائتلاف: وللحقيقة فهذا مقصد يتعدى حدود الزمان والمكان ليقع في الأهداف العليا للأوطان؛ فمنذ متى كان الانقسام الشعبي والتنابز والتناحر يتحقق من وراءه مصلحة أو يعيد الحرية المسلوبة للبلاد، وإذا كان المحتل البريطاني قد أرسى دعائم قاعدته "فرق تسد" فعليها يسير حتى الآن كافة قوى الديكتاتورية أو الإمبريالية الحديثة، وعليه تكون إعادة اللحمة ولمّ الشمل ليست فقط سبيلا لكسر الانقلاب وإنما هي كذلك من أسس عدم تكراره هو أو أي استبداد سياسي آخر. ويتأكد هذا المقصد من عدم التكبر في البداية على الاعتراف بالأخطاء؛ حيث جاء في الديباجة: "منذ 11 فبراير أخطأ الجميع؛ كلنا أخطأنا". وفي ذلك أهمية قصوى لأن التلاوم وإلقاء الاتهامات من الممكن أن يظل إلى الأبد، ولكن بتجاوزها يتمهد الطريق من جديد. أما القول بأن: "من استبعد الآخرين فقد استبعد نفسه، ومن استوعب الآخرين فقد استوعب لوطنه"، فهو إشارة صريحة على أن المرحلة القادمة ستكون بيد المجموع لا مجال فيها لتصدر فصيل دون آخر، فالجميع يعمل بحسب طاقته وقدرته وفي "الوطن" استيعاب للجميع، فالوطن هنا غاية وآلية احتضان. ومن أفضل الأدلة التي عرجت عليها الديباجة لبيان مقصد الوحدة، هو ذكر ثورة يناير حيث ما زالت تمثل في العقل الجمعي للمصريين بكافة أطيافهم ذلك التنوع في الوحدة، والتعاضد مع الاختلاف. وقد استمرت الديباجة بعد ذلك في استخدام كافة المفردات ذات الدلالات الواضحة للإشارة إلى كافة الأخطاء الأخلاقية التي ابتليت بها قوى الثورة ووقعت في أسرها، ثم انطلقت الديباجة من التأكيد لرفض: "التكذيب والتخوين أو نسبة الغش وسرقة الثورة أو عقد الصفقات السرية أو عدم الشفافية أو الاستحواذ على السلطة أو المناكفة أو المكايدة السياسية أو انتهاج العنف أو تبريره". وبعد هدم كل تلك السوالب للاتحاد، أكد الميثاق مقصد "الثقة" كركن ركين ومقصد جزئي لا يتحقق لم الشمل إلا بناء عليه. وقد استمر تأكيد مقصد الوحدة بقوة في البندين الأول والثاني، واللذين أشارا مرة أخرى إلى أهمية الثقة بل وحددا لبنائه آلية حضارية وهي "الحوار"، ثم بعث برسالة طمأنة للجميع بأن الانضواء تحت أي ميثاق أو بيان لا يهدف إلى صناعة قوى متطابقة أحادية، بل هو ميثاق تعددي في المؤمنين به، متوحدا في مقصد الوطن والحرية فقط، أما ما عدا ذلك فالتعدد سنة كونية لا يغالبها عاقل. 2- صناعة مستقبل ناجع بسواعد فتية: ويتبدى هذا المقصد في تأكيد البند الثالث على الشباب بصفة خاصة، وإبرازه "تقديمهم وتمكينهم"، في إطار حديث أخلاقي، فهي إشارة على أن العين الأخلاقية الجمعية لا بد أن تكون على مستقبل أفضل، والذي لا بد أن تتم صناعته منذ الآن، والبطل في ذلك هم الشباب، وعليه يكون تقديمهم خلقا وقيمة، وليس فضلا أو رفاهية. ثالثا: الأفعال المحثوث عليها والمنهي عنها انطلقت أفعال النهي من التأكيد على رفض كل السلبيات التي تتنافى مع مقصد الوحدة ولم الشمل؛ حيث أشار البند الخامس على سبيل المثال إلى: "رفض كل دعوات العنصرية، والطائفية، والتمييز الطبقي، واللجوء إلى العنف أو تبريره، والتعصب الأعمى، ونفي الآخر، والتحقير، والتكفير، والتخوين، والتشكيك، والإهانة، والتشويه، والشيطنة، وتقديس الفرد أو الجماعة أو المؤسسة، أو الحركة أو الحزب وما إليه". وهذه هي محصلة للعديد من الصفات التي تمثل أفعالا لا-أخلاقية عامة، ولذا تابعت البنود تأكيد النهي والرفض أيضا لكافة التطبيقات السلوكية لتلك الأفعال الخلقية والتي من بينها كما في البند السادس: "وقف كل الحملات الإعلامية المتبادلة بين القوى السياسية الثورية، حرصًا على عملية اصطفاف سوية، تقوم على مواجهة عودة الاستبداد العتيد، والفساد المديد". أما أفعال الحث فقد جاءت -المباشرة منها- لتضع بعض الآليات الإجرائية لمتابعة هذا البيان الأخلاقي، ومنها:"تشكيل أمانة متابعة الخطاب المتبادل بين هذه القوى"، "تشكيل فريق تصالح من الشخصيات المتوافق عليها"، "تقوم أمانة التنسيق بصياغة القواعد الأخلاقية بشكل إجرائي محدد". وجميعها إجراءات تصب في تحقيق المقصد الأول وهو الوحدة والاصطفاف ولم الشمل. واقرأ أيضًا: حسام عقل: ميثاق بيان القاهرة تمهيد لموجة ثورية ومن جانبه وتعليقا على الميثاق الأخلاقي يقول خالد الأصور -الباحث الإعلامي-: إن أي خطوة أو تحرك يؤدي إلى دعم الاصطفاف الثوري هو إضعاف من شوكة الانقلاب وتصب في مصلحة الشرعية؛ فحتى ولو لم ينص البيان صراحة على عودة الرئيس المنتخب د.محمد مرسي؛ فإن الهدف والغاية لا خلاف عليها وهي عودة المسار الديمقراطي الحقيقي وأن تكون الكلمة للشعب؛ فأي عمل ثوري لا بد أن تتضافر فيه كل الجهود، سواء التحرك على الأرض أو عبر محاولات كهذه تحاول الوصول إلى نقاط الاتفاق بين التيارات الثورية فلا بد من التكامل بين الحشد الجماهيري في الشارع، والقلم الذي يصوب الرؤية ويحددها. وحول ما ينقص الميثاق وفقا لوجهة نظري يقول "الأصور": الميثاق في هذه المرحلة مجرد بيان ينتظر بلورته في خطة محددة تتوافق عليها القوى والتيارات الرافضة للانقلاب.