في تجربة ديمقراطية إفريقية ملهمة، تنم عن تحضر واحترام رأي الشعب والانصياع لرغباته وإرادته، على عكس كثير من الدول التي تدعي التحضر والامتدادات الحضارية لقرون زمنية كمصر ، جاءت نتيجة الانتخابات الرئاسية السنغالية، وفق إرادة الشعب وحسب ما قاله، وليس حسب مصالح العساكر أو الفسدة أو أصحاب المصالح أو ما يعرف بالدولة العميقة. وحسب نتائج رسمية أولية أعلنت الأربعاء، فاز المعارض باسيرو ديوماي فاي بانتخابات الرئاسة السنغالية بحصوله على 54,28 بالمئة من الأصوات في الجولة الأولى، فيما عادت نسبة 35,79 في المئة منها لمرشح الائتلاف الحاكم أمادو با، ولا يزال يتعين أن تصادق أعلى هيئة دستورية على فوزه وهو ما قد يحدث في غضون أيام قليلة. وأقر الائتلاف الحاكم في السنغال الاثنين الماضي، رسميا بفوز مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي في انتخابات الرئاسة، بعد أن أظهرت نتائج رسمية أولية أن مرشح حزب "باستيف" المحظور يتجه لحسم المعركة من الجولة الأولى. وقد هنأ الرئيس المنتهية ولايته ماكي سالي، ديوماي فاي على فوزه بالانتخابات من الجولة الأولى، واعتبر ذلك فوزا للديمقراطية السنغالية، كما أشاد بالأجواء التي جرى فيها الاقتراع. وقبيل إعلان النتائج الرسمية الأولية، أقر مرشح الائتلاف الحاكم "أمادو فا" بالخسارة، في صورة تعكس تقليدا سياسيا ظل سائدا خلال ربع قرن. فمنذ خسارة الرئيس عبدو ضيوف أمام منافسه عبد الله واد العام 2000، وخسارة واد أمام منافسه ماكي سال، اتسم انتقال السلطة بالإقرار بالخسارة وتسليم السلطة للفائز بشكل سلمي. ويعد باسيرو ديوماي فاي (44 عاما) الذي يوصف بأنه مرشح من خارج المؤسسات الرئيس الخامس للسنغال، وكانت عمليات فرز الأصوات أظهرت تصدره بنسبة تتخطى العتبة المطلوبة للحسم من الجولة الأولى، وبهذا يكون حزب "باستيف" أبرز أحزب المعارضة رغم حظره، قد نجح بإيصال مرشحه إلى المنصب الأعلى في الدولة. وخاضت المعارضة السباق الرئاسي بداية من وراء القضبان في ظل وجود زعيم الحزب عثمان سونوكو في السجن وإقصائه من الترشح. بعد قرار المجلس الدستوري إبعاد سونوكو عن قائمة المرشحين لوجود حكم قضائي بحقه، وقع الخيار على ديوماي فاي، الذي كان بدوره في السجن، مرشحا عن حزب باستيف، وبهذا انتقل الرجل، الذي لا يملك خبرة سابقة في خوض الاستحقاقات السياسية، إلى رئيس واحدة من أبرز الديمقراطيات في أفريقيا. يشار إلى أن نتيجة الانتخابات كانت متوقعة، لكن المفاجأة الكبرى تمثلت بحسم السباق من الجولة الأولى بنسبة 60% من الأصوات، ليتخطى العتبة الانتخابية بفارق كبير، وينال أغلبية مطلقة، وهذا ما سهّل على المعارضة إعلان الفوز وحتم على الائتلاف الحاكم الإقرار بالخسارة. عراب المعارضة وقاد عثمان سونوكو حزب الوطنيون من أجل العمل والأخلاق والأخوة، المعروف اختصارا "باستبف" لهذا الفوز، وقد سبق له أن خاض انتخابات العام 2019 منافسا للرئيس وحل في المركز الثالث. ووجهت له عام 2021 تُهم بالاغتصاب لكنه دفع ببراءته منها ووصف الاتهامات بالكيدية، وعمت السنغال احتجاجات واسعة آنذاك، تجددت مع محاولات ماكي سال تأجيل الانتخابات. وأدار عثمان سونوكو معركته مع الحكومة بحنكة سياسية لافتة، وكان تبنيه ترشيح ديوماي فاي حجر الزاوية في الفوز بأرفع منصب سياسي في السنغال، حضر في جميع الفعاليات الانتخابية ووجه تصويت مناصريه لصالح ديوماي فاي، واستفاد من أخطاء الرئيس المنتهية ولايته على المستوى السياسي، ومصاعب الاقتصاد لقيادة حملة انتخابية يبدو أنها أتت أكلها. وقد يكون قرار ماكي سال تأجيل الانتخابات حتى نهاية العام الجاري الخطأ السياسي القاتل الذي كلف الائتلاف الحاكم سدة الرئاسة، وأسقط المجلس الدستوري قرار الرئيس، لكن مرشح الائتلاف الحاكم أمادو با نفسه كان امتدادا للسياسة القائمة، وهذا بدوره لم يكن في صالحه. تحديات مستقبلية ويواجه الرئيس المنتخب تحديات عدة، داخليا سيكون عليه تعزيز ثقة الشباب الذين شكّل صوتهم رافعة لوصوله للمنصب، وتعد البطالة من أكثر القضايا إلحاحا، حيث وصلت لنحو 19.5% في الربع الثالث من العام الماضي بحسب أرقام رسمية. وتعد البطالة وقلة فرص العمل الدافع وراء ارتفاع معدلات الهجرة غير النظامية باتجاه أوروبا. كما على الرئيس الجديد، أن يضع خارطة طريق للخروج من معدلات مرتفعة أدت بالفعل إلى خفض معدلات الاستهلاك، وتبديد الزيادات في الرواتب التي اعتمدت الصيف الماضي. معضلة النفط والغاز ووفق تقديرات اقتصادية، يعد النفط والغاز من أبرز أوراق الرئيس المنتخب، وقد سبق للبنك الدولي أن اعتبرهما رافعة الاقتصاد، وبحسب تقديرات رسمية، فإن البلاد تقترب من تحقيق قدرة إنتاجية بنحو 100 ألف برميل نفط يوميا، وحوالي 2.5 مليون طن من الغاز سنويا، لكنهما سيف ذو حدين، بحسب الرئيس المنتخب، طالما أن العقود لا تلعب لصالح الدولة. وخلال الحملات الانتخابية وعد زعيم "باستيف" عثمان سونكو بإعادة التفاوض. وخلال الحملات الانتخابية وعد زعيم "باستيف" عثمان سونكو بإعادة التفاوض على عقود الطاقة لزيادة إيرادات الدولة من جهة، والاستفادة منها في تطوير قطاع إنتاج الطاقة من جهة أخرى، والخلاف على استثمار إنتاج الغاز محليا كان السبب وراء انسحاب شركة "بي بي" البريطانية نهاية العام الماضي بعدما سعت لتصدير كامل الإنتاج. ومع طي صفحة الانتخابات و3 سنوات من الاضطرابات، تتهيأ السنغال للدخول في مرحلة سياسية جديدة، عنوانها رئيس شاب جديد على الحياة السياسية، متسلح بدعم سياسي مخضرم يحسّن مخاطبة الشارع والمواطن، ولا يتبنى أي من الرجلين -الرئيس المنتخب باسيرو ديوماي فاي أو عرابه عثمان سونوكو- أي خطاب عدائي للخارج، لفرنسا أو لغيرها، ويعتمدان لغة ترى في الداخل أولوية. بين مصر والسنغال ويتشابه فوز الرئيس الجديد "ماي فاي" مع فوز الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، الذي كان مسجونا قبل رئاسته البلاد ، وجاء بديلا عن المرشح الأساسي لجماعة الإخوان المسلمين، بعد عراقيل إدارية ومناكفات عسكرية أرادت من خلالها الدولة العميقة حرمان مرشح الإخوان الأساسي خيرت الشاطر من الرئاسة، كما أن الرئيس مرسي، جاء من أوساط الشعب ولم يكن ضمن تشكيل الدولة العميقة، وكان معارضا برلمانيا ومنفتحا على الثقافات العالمية، لدراسته وعمله بأمريكا، كما كان متسامحا مع الأطراف الأخرى ويعمل من أجل الاستقلال الوطني وخدمة المصالح المحلية أكثر من الانقياد للأجندات الدولية. وهو ما يعيد للذاكرة السياسية، حجم ما خسرته مصر من الانقلاب العسكري على الرئيس محمد مرسي، وكسبته السنغال برئيس شاب متسامح مع الجميع ومنحازا للمصالح المحلية، يحترمه العالم.