يرى سامح راشد -خبير الشئون الإقليمية بالأهرام ومدير تحرير مجلة "السياسة الدولية"- أن استهداف الثورات العربية بشكل عام، هو رد فعل طبيعي ومنطقي من جانب النظم السابقة والموالين لها والمنتفعين منها، والأطراف المتحالفة مع تلك النظم خصوصًا في المنطقة. فالمسألة بالنسبة لكل هؤلاء قضية مصيرية، أي بقاء أو فناء. وأضاف في تصريح خاص ل"الحرية والعدالة" هناك تخطيط وتنسيق وتحركات مرتبة ومدروسة بدقة وممنهجة ومتدرجة، بدأت بمصر ثم جرت محاولات مع تونس، وها هي تنتقل إلى ليبيا. حالة اليمن مختلفة قليلًا لأن الثورة فيها تم ترشيدها ونزع فتيلها بشكل مقنن عن طريق "المبادرة الخليجية". فيما الوضع في سوريا خرج عن نطاق الثورة الشعبية بسبب العسكرة المبكرة وتورط أطراف خارجية، فتحولت الثورة سريعًا إلى حرب أهلية ثم إقليمية.
نظم تخشى الثورة وبشأن الأصابع الخارجية والإقليمية التي تريد الانقضاض على الثورة الليبية وتهددها قال "راشد": إنه من الصعوبة بمكان تحديد أسماء أو أطراف بعينها دون غيرها؛ فباستعراض قائمة الأطراف التي تضررت من الربيع العربي أو تخشى من انتقاله إليها، يمكن ببساطة ملاحظة أنها تشمل كل دول الخليج عدا قطر وإلى حد ما الكويت -لأن بها درجة من الديمقراطية وحرة التعبير والرقابة- والدول الملكية الأخرى (الأردن والمغرب) والدول شبه الملكية (الجزائروسوريا والسودان).. أي باختصار –وهذا منطقي- كل النظم العربية الحاكمة، لأنها جميعًا ليست ديمقراطية وبالتالي تخشى التغيير والإصلاح والحريات إلى آخر مطالب الثورات.
وفي حالة ليبيا، هناك اعتبارات أخرى تتعلق بأطراف بعينها مثل مصر التي تعتبر ليبيا عمقًا استراتيجيًا لها وبالتالي تتعامل معها من منظور أمني بالأساس، وهو منظور يشمل كل جوانب الوضع الداخلي في ليبيا. وبشكل عام، نجاح الثورة في أي بلد عربي أمر غير مطلوب ويجب منعه في تقدير الأطراف التي أشرنا إليها.
وبشأن دور الإمارات وإسرائيل بليبيا ودور الغرب في ذلك ومن يدعم حفتر الانقلابي أشار "راشد" أن موقف الناتو والدول الغربية بشكل عام من الثورة الليبية محل انتقاد وتحفظ من جانب دول الخليج ومصر والجزائر بصفة خاصة، فهذه الدول تعتبر الوضع الأمني والسياسي الفوضوي في ليبيا، نتاجًا مباشرًا لما قام به الناتو من إطاحة القذافي ثم المغادرة دون ترتيب الأوضاع أو وضع مشروع واضح للأمن وإعادة بناء الدولة. وقد كان القذافي حريصًا على عدم وجود جيش نظامي بالمعني التقليدي. بل لم تكن هناك دولة بالمعنى المؤسسي التقليدي.
مخاطر محدقة ونبه "راشد" إلى أنه وللأسف هذا الواقع الليبي سمح بالفعل لقوى ومكونات ليست ثورية بالتحرك وتنمية قوتها والاستقواء بعمليات تسليح وتدريب خارج نطاق السلطة، كما انضمت لها عناصر موالية للقذافي وأصبحت كثير من الأجهزة تعمل بقوة ولها أذرع طويلة وواجهات متشعبة داخل ليبيا. وفي ظل الفراغ الأمني وضعف السلطة السياسية المركزية أصبحت القوة المسلحة هي أداة استعادة النظام السابق، وهزيمة الثورة الليبية.
لكن الخطر أبعد وأعمق من استعادة نظام سابق، وإنما في تأسيس نظام جديد يسعى كل طرف داخلي وخارجي إلى إيجاد مساحة له فيه، بل والسيطرة عليه. تحولت ليبيا إلى ساحة مستباحة يجري التنازع عليها بأدوات أمنية وعسكرية. وبعض الليبيون يساهمون في ذلك التوجه سواء بوعي أو بغير وعي.
وحول كيفية حماية الثورة الليبية نفسها سريعا من الانقلاب عليها قال "راشد" بإيجاز، أي حق لا بد أن يستند إلى قوة تحميه وتثبته. وغياب تلك القوة يفضي إلى ضياع الحق فورًا وبلا أي شك.والمعنى أن الثورة الليبية بحاجة إلى لملمة ما تشتت منها، والاتفاق بين الفصائل الثورية على خطوط عريضة أساسية، وذلك برعاية لجنة من الحكماء والساسة المعتدلين ذوي الاحترام والتقدير من كافة الأطراف. ويكون المتطلب الأساس في ذلك التوافق هو بناء قوة ليبية مسلحة موحدة ومركزية وخاضعة لسلطة سياسية واحدة.
وتابع: ولا ضير لو استلزم ذلك إعادة انتخاب المؤتمر الوطني العام، أو إجراء انتخابات جديدة لبرلمان مصغر مؤقت، أو أن تتولى تلك اللجنة التوافقية تشكيل حكومة مصغرة (مجلس لقيادة الثورة) يتولى إدارة شؤون البلاد ويخضع الجميع لسلطته ويتم تسليمه كافة الأسلحة. على أن تكون هناك ضمانات بعد استهداف أو إقصاء أي من الفصائل الثورية، أو أن تكون ممثلة في الكيان السياسي الجديد بصورة متناسبة جغرافيًا وقبليًا وحسب قوتها على الأرض.
الوضع بالداخل المصري وأوضح "مدير تحرير مجلة "السياسة الدولية" بشأن الوضع بالداخل المصري وموقف السلطة القائمة من الثورة الليبية أنه بالتأكيد، تغير الوضع السياسي الداخلي ينعكس مباشرة على الموقف من الوضع في ليبيا. وهو أمر واضح من الموقف السلبي لمصر تجاه ليبيا الثورة أثناء حكم المجلس العسكري، ثم تحسن الموقف قليلًا أثناء حكم د.مرسي، ثم التراجع مجددًا في الأشهر الماضية. مشيرا إلى أن لمصر أدواتها ووسائلها للتعامل مع الوضع الليبي وهو طبيعي في ظل اعتبارات ارتباط الأمن المصري حيويًا بالوضع على حدودها الغربية، فضلًا عن أعداد المصريين المتواجدين هناك. وأخيرًا فإن ما ستنتهي إليه ليبيا سياسيًا سيؤثر مباشرة في الداخل المصري وسيفرض إما أعباء جديدة على السلطة الحاكمة في مصر حاليًا، أو سيخفف عليها ويساعدها في إدارة الأمور دون ضغوط كبيرة.
وقال "راشد" بشأن مصر وهل ستخسر في حالة تدخل القوى الغربية أو الناتو أو فرنسا بتدخل عسكري في ليبيا أن مصر ستتضرر من تواجد عسكري أجنبي على حدودها الغربية، لكن الضرر الحاصل حاليًا من الانفلات الأمني في ليبيا، يبدو أكبر وأكثر خطورة. لذا ربما لا ترفض مصر -بل ربما تفضل- تدخل قوات غربية في ليبيا. خاصة أن الساحة المهمة لن تكون يسيرة أو نزهة لتلك القوات، وبالتالي ستكون مستنقعًا جديدًا لذلك الطرف الغربي أو ذاك. فيما ستتخلص مصر بهذا من عبء ومخاطر قائمة بالفعل نتيجة تهريب الأسلحة وربما الأفراد عبر الحدود الغربية.
لكن هذه ليست الصيغة المثالية بالنسبة لمصر في عهد "السيسي" فربما كان التدخل المصري المباشر أفضل وأفيد بالنسبة لمصر. فلو تدخلت مصر مباشرة وتولت هي مهمة تأمين أو تثبيت أوضاع معينة داخل ليبيا، فهي بذلك تنقل خط الدفاع عن الحدود الغربية إلى داخل ليبيا، وستقوم بالمهمة نيابة عن أطراف غربية بالتأكيد لا تريد التورط في مستنقع جديد. وسيتم توظيف هكذا خطوة في الترويج لدور مصري إقليمي جديد وفي رسم صورة ذهنية مختلفة عن قوة مصر وزعامتها وهيبتها، في محاكاة جديدة لفترة عبد الناصر. ولا شك في أن كل ذلك سيتم –حال تحقق ذلك الاحتمال- توظيفه لتدعيم وتثبيت أركان السلطة الحالية داخليًا وإقليميًا بل وعالميًا.
استعادة الوحدة وحذر "راشد" من أن الوضع في ليبيا مرعب وليس فقط مقلقًا، ليبيا فعليًا مقسمة وليست موحدة. لكنها مقسمة أمنيًا وليس سياسيًا، وما لم تتم استعادة وحدتها جغرافيًا وأمنيًا أي على الأرض، فإن تقسيمها السياسي رسميًا لن يكون سوى تحصيل حاصل ومسألة وقت. وما جرى في الأيام الماضية وقبلها بأسابيع ليس سوى مظاهر وتجليات لذلك التقسيم الحاصل بالفعل.
أما عن "تونس" فيرى "راشد" أنها مختلفة، في تونس التركيبة الاجتماعية والسياسية أكثر مرونة وقابلية للتفاهم والتوافق. والقوة التي تحكم المعادلة الداخلية ليست القوة المسلحة، فهي إلى حد بعيد خارج المعادلة ومحايدة. فيما القوى السياسية والاجتماعية تتفاهم وتتصارع وتختلف وتتفق بأدوات سياسية وإعلامية. والخطورة على تونس ظهرت عندما تم استخدام القوة (عمليات الاغتيال) وتوظيف حركة الشارع لصالح بعض القوى السياسية. مشيرا إلى أنه من المهم في الحالة التونسية التوقف عند دور القوات المسلحة واتجاهه. فوجود الجيش التونسي النظامي –على خلاف ليبيا- مثل صمام أمان حال دون انفلات الأوضاع. واقتصار دوره على ذلك الإطار الحامي عن بعد، كفل أيضًا للعملية السياسية بكل زخمها ومشاحناتها وصراعاتها، الاستمرار دون الوقوع في أسر العسكرة أو التبعية للجيش. وتلك من الميزات التي قد تضمن للثورة في ليبيا النجاح إذا ما استمر الجيش التونسي على هذا الموقف الذي يستحق وصفه بالحياد.