مما لا شك فيه أن واشنطن تسعى إلى تأمين مصالحها الاستراتيجية في العراق عبر وسائل مختلفة، تلك المصالح باتت مهددة في ظل حكومات عراقية متتالية سواء أكانت ضعيفة أو منحازة لطهران. ومع استراتيجية ترامب في تخفيف وجود القوات الأمريكية خارج الأراضي الأمريكية، أطلقت واشنطن دعوة للحوار الاستراتيجي مع العراق تبدأ في مطلع يونيو المقبل. الدعوة لاقت ترحيبا من الأطراف الدولية، التي ترنو لتقليص التصعيد العسكري الأمريكي الإيراني في المنطقة. وبحسب مراقبين، يمثل الحوار الأمريكي العراقي الفرصة الأخيرة لمعالجة القضايا الثنائية العالقة، بما في ذلك وجود القوات الأمريكية في العراق. حيث من المتوقع أن تستخدم واشنطن سلاح المساعدات الاقتصادية لإلزام الحكومة الجديدة في بغداد بمقاومة التدخلات الإيرانية دون الوصول إلى خسارة العراق وتحالفها، ما يؤدي إلى نتائج عكسية تضر بالمصالح الاستراتيجية لأمريكا في المنطقة. وينظر كثيرون في العاصمة الأمريكية إلى إعادة تقييم العلاقات الأمريكية- العراقية باعتبارها تأخرت كثيرا. فقد مضى أكثر من عقد منذ أن وافق البلدان على الاتفاقية الخاصة بوضعية القوات الأمريكية والاتفاقية الاستراتيجية الإطارية. غير أن زخم الحوار الاستراتيجي الجديد ينبع، على ما يبدو، من إحساس متنام في واشنطن بنفاد الصبر. فقد تضررت العلاقات كثيرا خلال الأشهر الماضية، وشعرت الإدارة الأمريكية بأن الحكومات السابقة غير قادرة على تحقيق مطالبها بالحفاظ على سيادة العراق الوطنية من النفوذ الإيراني المتنامي، ما شكل خطرا على القوات الأمريكية في الأراضي العراقية، بحسب الرؤية الأمريكية. وأعطت الحكومة الجديدة، برئاسة مصطفى الكاظمي، الإدارة الأمريكية بعض الأمل في تغيير مسار العلاقات بين بغدادوواشنطن. إذ إن رئيس الحكومة السادس للعراق منذ 2004 ظل الخيار المفضل لواشنطن لكونه ليبراليَّ التوجه، وعمل كاتبا وناشطا حقوقيا قبل انخراطه في السياسة وتعيينه بشكل مُفاجئ رئيسا لجهاز الاستخبارات العراقي، والتزامه خلال عمله بالطابع المهني واحترام سيادة القانون. ليس هذا فحسب، بل إن حكومة الكاظمي تمثل فريقا أشبه بفريق الأحلام. فقد كان وزير الدفاع الجديد قائدا سابقا للقوات البرية. ووزير الداخلية كان رئيسا لأركان الجيش. بينما يتمتع رئيس الجمهوريّة برهم صالح، الذي عاش سابقا في واشنطن، بنظرة ليبرالية. ولهذا، لم يستغرب كثيرون الترحيب الذي حظيت به الحكومة العراقية الجديدة، والاتصال الذي أجراه أخيرا الرئيس ترامب بالكاظمي، معربا عن رغبته في تقديم مساعدات اقتصادية للعراق قبل أيام من انطلاق الحوار الاستراتيجي، وفي وقت يُعاني العراق أزمة اقتصادية جراء انهيار أسعار النفط الذي يشكل 90% من العائدات الاقتصادية للبلاد. ولم يكن ذاك هو المؤشر الأول إلى رغبة الولاياتالمتحدة في تغيير المسار المضطرب في العلاقات مع بغداد، فقد سبق وأعلنت الخارجية الأمريكية بعد ساعات من تنصيب الكاظمي عن منح العراق إعفاءات تسمح باستمرار استيراد الغاز والكهرباء من إيران مدة 120 يوما، بعدما كانت الإعفاءات السابقة لا تزيد عن 30 يوما. تحديات بالطريق وعلى الرغم من أن الكاظمي كان الرجل المثالي لرئاسة الحكومة العراقية، في وقت انخفضت ثقة العراقيين في النخبة السياسية، فهو يواجه تحديات صعبة تتمثل في كيفية إحداث التوازن بين السخط المتنامي في أوساط المشرعين العراقيين بشأن الوجود الأمريكي في العراق، وبين الإبقاء على المساعدات الاقتصادية والدعم الاستراتيجي الأمريكي للحكومة العراقية، فضلا عن صعوبة تنفيذ الإصلاحات وإجراء الانتخابات؛ لأن الإصلاح الحقيقي يتطلب موافقة الوسطاء الأقوياء داخل السلطة وخارجها الذين من المفترض أن تتضاءل سلطتهم بفعل هذه الإصلاحات. ويقول مايكل روبن، الباحث في معهد “أميركان إنتربرايز” في واشنطن، إن استقرار العراق يعتمد على نجاح الكاظمي في التعامل مع هذه التحديات ومعالجتها بنجاح قبل أن تقلب واشنطن الطاولة خلال أو بعد الحوار الاستراتيجي بسبب المشاعر المتنامية بنفاد الصبر. فقد أنفقت الولاياتالمتحدة 25 مليار دولار على تدريب الجيش العراقي، في وقت تتواصل تساؤلات الرئيس ترامب عن سبب استمرار التدريبات إلى الأبد إذا ما كانت ناجحة، وما الذي يُزعج البنتاغون إذا كانت التدريبات فاشلة. وسبق لترامب أن عبّر عن رغبته في الانسحاب من العراق، معلنا أن الولاياتالمتحدة أنفقت 6 تريليونات على الحروب في الشرق الأوسط، كان من الأفضل أن تستثمرها في تحسين الأوضاع الداخلية في الولاياتالمتحدة. وسارت الخارجية الأمريكية على الخط نفسه، الذي يعبر عن الإحباط ونفاد الصبر حين أصدر وزير الخارجية مايك بومبيو قرارا بإغلاق القنصلية الأمريكية بعدما أطلقت الميليشيات المدعومة من إيران صاروخا في اتجاه القنصلية. وعلى الرغم من نفاد صبر الإدارة الأمريكية، يحذر مراقبون من أن التخلي عن العراق سيأتي بنتائج عكسية، ليس للعراق فحسب، بل للمصالح الاستراتيجية الأمريكية أيضا، لأن أفضل دفاع ضد الطموحات الإيرانية في المنطقة هو عراق قوي، قادر على الدفاع عن نفسه ضد جميع القوى الإقليمية والدولية. ملفات شائكة لهذا، يرى روبن أن القواعد الأمريكية ستكون مطروحة على طاولة المباحثات في الحوار الاستراتيجي، كما أن التخلي عن بغداد إلى طهران. فيما يخشى مراقبون من أن الانسحاب الأمريكي السريع من العراق سيقوي طهران ويقوض الحكومة في بغداد التي تعد أرفع فريق قيادة يتمتع بالكفاءة في العراق بعد الحرب. ويوصي تقرير صادر عن مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في واشنطن، إدارة الرئيس ترامب بإضافة شروط صارمة على الدعم الأمريكي، خصوصا مع ضغوط الميزانية التي ستواجهها الولاياتالمتحدة خلال السنوات المقبلة، بسبب تداعيات أزمة كورونا، بحيث لا يكون هناك تسامح مع برامج المساعدات الخارجية التي لا تعود على واشنطن بالنفع، فضلا عن ضرورة التأكد من أنها لا تعزز أعداء الولاياتالمتحدة مثل إيران. ويشير التقرير إلى أن الحكومة العراقية ستواجه خيارات صعبة إذا لم تُظهر الحد الأدنى من مقاومتها التدخلات الإيرانية والحفاظ على سيادة العراق. فإدارة ترامب تسعى إلى دفع أكثر من 600 مليون دولار في العام المالي الحالي في شكل طائرات مقاتلة ومعلومات استخباراتية ومعدات نقل لوجيستية، في تدريب وتسليح قوات الأمن العراقية من أجل مطاردة فلول تنظيم داعش ضمن عمليات مكافحة الإرهاب. كما طلبت إدارة ترامب 120 مليون دولار لمساعدة الاقتصاد العراقي ولتمويل برامج أخرى منها برنامج لإزالة الألغام الأرضية. أكثر من ذلك، أن الولاياتالمتحدة ساندت بغداد في الحصول على مساعدات اقتصادية من صندوق النقد والبنك الدوليين، بينما يحافظ مجلس الاحتياط الفيدرالي في نيويورك (البنك المركزي الأمريكي) على الحساب الدولاري لاحتياطيات العراق الخارجية، وينقل إلى العراق سنويا مليارات من النقد الدولاري من فئة 100 دولار لإبقاء الاقتصاد العراقي المعتمد على التعاملات النقدية قائماً. عقوبات محتملة لهذا، فإن غياب الدعم الاقتصادي الأميركي سيضع الاقتصاد العراقي على حافة كارثة، وبخاصة مع انهيار أسعار النفط الذي يشكل 90 في المئة من العائدات الحكومية. وقد تلجأ الولاياتالمتحدة إلى فرض عقوبات على العراق قد تشمل منع بيع النفط، مثلما حدث مع إيران إذا لم تتخذ الحكومة العراقية خطوات لوقف النفوذ الإيراني المتزايد داخل العراق. ويشكل ذلك نفوذاً كبيراً للولايات المتحدة في الحوار الاستراتيجي إذا ما كانت مستعدة لاستخدامه، وسيكون هذا النفوذ أعلى إذا أوضحت واشنطنلبغداد أن قبولها المتزايد للهيمنة الإيرانية، يمكن أن يضع العراق بشكل متزايد في مرمى الإجراءات الأمريكية العقابية من حظر السفر وتجميد الأصول ضد كبار القادة السياسيين إلى ضربات تستهدف قادة الميليشيات الخاضعين للعقوبات. حتى القيود المفروضة على قدرة العراق على بيع النفط، على غرار العقوبات المفروضة على إيران، يمكن وضعها بشكل موثوق على الطاولة، خصوصاً في الوقت الذي تشهد الأسواق العالمية زيادة كبيرة في المعروض بما يصل إلى 20 مليون برميل من النفط يومياً. نقل القوات إلى كردستان ولتعزيز موقف المُفاوض الأميركي، ينصح التقرير بضرورة وضع خطة طوارئ جادة لتجميع القوات الأمريكية في العراق ونقلهم إلى منطقة من الأمان النسبي في كردستان العراق التي تحظى بحكم شبه مستقل في البلاد. فعلى عكس النخبة السياسية العراقية، تدعم الحكومة الكردية وقوات الأمن بشكل عام الوجود العسكري للولايات المتحدة، وبذلتا قصارى جهدهما لمكافحة التهديدات التي تواجه القوات الأمريكية والدبلوماسيين الذين تستضيفهم. ومع توافر موطئ قدم آمن في كردستان العراق المدعومة أميركياً، ستظل الولاياتالمتحدة قادرة على القيام بمهمات أساسية للتدخل في العراق، ولو تحت مسميات لمكافحة الإرهاب ضد تنظيم داعش، بما في ذلك القيام بعمليات في سوريا. وحينما تقلص الولاياتالمتحدة إمكانية تعريض قواتها للخطر، يصبح لديها مرونة أكبر لاتخاذ إجراءات، ضد التهديد المستمر الذي تشكله إيران ووكلاؤها من الميليشيات. وفي تقدير موقف استراتيجي، لن يدخل العراق في حرب مع إيران. وبغداد لن تعمل على استئصال الميليشيات بين عشية وضحاها، لكن يمكن الإدارة الأمريكية بشكل شرعي مقبول أن تصر على أن تبدأ الحكومة العراقية باتخاذ خطوات واقعية، لمصلحة حماية سيادة العراق. وهو أمر من شأنه أن يعالج العديد من المخاوف الأمريكية الأساسية على الصعيد السياسي والاقتصادي والعسكري.