هي "رقية" وارتقت.. هكذا قال الأب المناضل الشيخ "هاشم إسلام" معلقا على استشهاد ابنته؛ حيث فاضت روحها إلى خالقها في 19 من مارس الحالي، في حين أن واقعة قتل الانقلابيين لها كانت في 25 يناير الماضي، أي أنها ظلت ما يقرب من شهرين تئن في جراحها. والشيخ "هاشم" هو عضو لجنة الفتوى بالأزهر والتي تم استبعاده منها تعسفيا في الفترة الأخيرة، نكاية فيه لأن له العديد من الفتاوى التي تؤكد بطلان الانقلاب وفرضية إسقاطه على كل مصري، بخلاف فتواه الشهيرة بحرمة محاكمة الرئيس الشرعي الدكتور محمد مرسي. ولذا فملاحقة الانقلابيين استمرت معه وأدت في النهاية إلى ارتقاء ابنته، والتي يؤكد "هاشم" في حديثه ل"الحرية والعدالة" أنه صار مطمئنا عليها، وأمله أن يحلق بها هو وبقية أبنائه على الشهادة كذلك في سبيل الله. وهذا نص الحوار:
من هي ابنتكم الشهيدة؟ رقية هاشم إسلام على إسلام الفار، مواليد 27 نوفمبر 1995، أي لها من العمر عند الاستشهاد 18 ربيعا، كانت أزهرية النشأة وقد منّ الله تعالى عليها بحفظ القرآن الكريم كاملا، ورغم أني كنت أريد لها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية إلا أنها أبت وفضلت الالتحاق بكلية الإعلام. جامعة الأزهر، مؤكدة أنها تريد أن تعبر عن قضايا الأمة الإسلامية وخاصة في فلسطين والقدس المحتلة، وعن صفاتها الإنسانية فقد كانت حرة أبية تحافظ على عزتها وكرامتها لأبعد حد.
وماذا عن أهم مواقفها السابقة؟ بداية من ثورة 25 يناير ورغم حداثة سنها آنذاك، إلا أنها كانت لها رغبة قوية في المشاركة واللبث في الميدان، ولكني آثرت انصرافها حتى لا أنشغل بها وهي الصغيرة ما زالت في السن، في حين كانت أمامي العديد من المهمات في الميدان وقتها، ولكنها لم تنس هذا الأمر مطلقا، وكأنها كانت تتحيّن الفرص لتقوم بدور في حرية وكرامة بلادها. ولذا فقد شاركت معي في اعتصام رابعة العدوية، وبعد مذبحة الفض، استمرت مشاركتها في كافة الفعاليات الطلابية والتي كانت تشتد يوما بعد يوم، وعندما استأذنتني في ذلك لم أملك سوى الثناء على رغبتها تلك، وتشجيعها عليها، خاصة وقد أصدرت فتوى عقب الانقلاب بأن إسقاطه فرض عين على كل مسلم، ولذا قلت لها: "ما كنت أحث الناس على النزول وأمنع ابنتي"، فانطلقت مطمئنة متقدة بالحماس والنية الطبية. وجميع زميلاتها يشهدن كيف كانت دائما من المتقدمات في الصفوف ولا تخشى من أي شيء، بل كانت تحلم بالشهادة وتسأل الله تعالى إياها، ومن أهم صفاتها أنها كانت تحب تجمع المسلمين وحضور الصلاة والقيام في جماعة، كما حبب الله تعالى لها على صغر سنها العمل الدعوي وممارسته منذ أن كانت أصغر من ذلك.
في قصة رقية كذلك ملاحقات سابقة لها من قبل قوات الانقلاب؟ هذا حدث بالفعل، فمنذ التحاقها بجامعة الأزهر -حيث كانت في الفرقة الأولى هذا العام- وقد كانت الإدارة هناك تحاول التأكد ما إذا كانت ابنتي أم لا وقد تم بالفعل اعتقالها مرتين داخل جامعة الأزهر في عدد من الفعاليات في كل مرة عدد من الساعات، وكأنهم يريدون أن يبعثوا لي برسالة تهديد وتخويف.
وماذا حدث في يوم 25 يناير الماضي؟ شاركت رقية مع غيرها من طلاب الأزهر وطلاب جامعة القاهرة في فعالية حاشدة هذا اليوم، وانطلقت الفعالية حتى وصلت بالقرب من ميدان مصطفى محمود بالجيزة، وهناك أصيبت برصاص في البطن؛ علمنا بعد ذلك من ملاحظات الأطباء أنه لا بد وأن يكون محرما دوليا من شدة الآثار التي تركها في الجسم، حيث إن أول دخوله أحدث صدمة تسممية بخلاف تآكل في الأمعاء ونزيف غير طبيعي، وعقب إصابتها حملها زملاؤها وحاولوا الوصول بها إلى أي مستشفى سريعا، ولكن قوات الانقلاب استوقفتهم في الطريق ولم ترحم تلك الدماء التي تسيل، بل اعتقلت زملاءها، واعتبروا رقية كذلك معتقلة داخل المستشفى التي وصلت لها لتلقي العلاج، وهناك أجرى لها أحد الأطباء جراحة سيئة للغاية أدت إلى تدهور شديد في حالتها بعد ذلك، حيث أكد الأطباء التي رأوها بعد ذلك أنه كان لا بد لهذا الطبيب من إجراء جراحة استكشافية أولا لمعرفة وضع الرصاصة وما سببته في الداخل قبل أن يقوم بإغلاق الجرح سريعا، وبعد فترة تمكنّا من إخراجها من هذه المستشفى والذهاب بها إلى مستشفى آخر أكثر أمانا من عيون الانقلاب، وللأسف فالكثير من المستشفيات كانت تطلب منا إخراجها سريعا لخشيتهم من مقدم قوات الانقلاب عليهم ومن ثم اعتقالها ثانية من داخل المستشفى؛ ولذا كنا نضطر أن نذهب وننتقل بها وهي الجريحة من مستشفى لآخر، فضلا عن قلقها هي الشديد عليّ إذا جئت لرؤيتها من أن يتم اعتقالي، في حين أنها كانت في حالة حرجة جدا؛ حيث أُجري لها سبع عمليات جراحية تألمت فيها أشد الألم، خاصة أن الجسم لم يكن يستجيب للجراحة، والجروح لا تلتئم وبين فنية وأخرى جزء من الأمعاء يموت، حتى إنها كانت تربط البطن بحزام وشاش لأن الجروح مفتوحة وغير ملتئمة؛ وكل ذلك مما أكد الطبيعة غير العادية للرصاص المستخدم، فضلا عن أثر الجراحة الفاشلة الأولى. ولذا فقد تبين لنا في رحلة العلاج تلك أن هذا الانقلاب الدموي يرتكب جرائم حرب ضد الجريح وضد المرأة لا يمكننا أبدا السكوت عليها؛ فقد ظللنا ما يقرب من شهرين في معاناة شديدة في ظل الملاحقة والمطاردة.
وكيف كان شعورها في الفترة الأخيرة؟ الحقيقة كانت مرحة ومطمئنة وصابرة رغم شدة الألم، بل كانت كثيرا ما تداعبني عندما تراني وتسارع برفع شارة رابعة تأكيدا لثباتها وصلابتها رغم كل ما كانت تعانيه؛ ولذا فأنا أعتبرها أستاذتي لأنها علمتني كثيرا خاصة في تلك الأيام الأخيرة من حياتها، فقد كانت "رقية" وارتقت بالفعل نسأل الله قبولها بين الشهداء.
هل كانت تلك هي الجريمة الوحيدة من الانقلاب تجاهكم؟ الملاحقات كثيرة ومستمرة منذ ثورة 25 يناير، ومؤخرا تم استبعادي من لجنة الفتوى بالأزهر، وبعدها وعقب إصداري فتوى تؤكد حرمة محاكمة الرئيس الشرعي المنتخب الدكتور محمد مرسي، ومن ثم اشتدت الملاحقات والتضييقات حتى تم نقلي إلى وظيفة إدارية وخارج القاهرة. ولذا كانت متابعتي لمرض ابنتي غاية في الصعوبة خاصة مع الترصد والترقب داخل العمل. ومع ذلك فنحن نستعذب ذلك جدا في سبيل الله، ولولا ذلك لشككنا في الطريق؛ فللحق طريق لا بد فيه من الصعوبات والأشواك والابتلاءات. وكيف تلقيت الخبر كأب يفقد أكبر أبنائه؟ بداية ف"رقية" هي الابنة الوحيدة في العائلة، فلا يوجد عند أعمامها جميعهم فتاة غيرها، وكذلك فهي أكبر أبنائي، وأول من رأت عيني، ومع ذلك فمما أندهش له أني وجدت الله تعالى قد قذف في قلبي شيئا كثيرا من القبول والرضى والصبر واليقين والاستبشار، حتى إني آمل أن يلحق بها أبنائي كلهم وأنا معهم على الشهادة في سبيل الله فلا أتمنى من الله سوى أن أجتمع مع أولادي في الجنة وتكون لنا القصور والنعيم؛ فزفاف ابنتي على الشهادة في سبيل الله أحب إلى من أراها في يوم عرسها؛ فقد اطمأننت عليها الآن للأبد، وأحب أن يهنئني الناس الآن على ذلك، وأعتبرها جزءا مني سبقني إلى الجنة؛ وقد رأيت بالفعل من علامات ذلك أن وجهها قد زاد نورا وتألقا بعد الوفاة حتى لنوره كان يزداد منذ الوفاة وحتى الدفن، كذلك في لحظة احتضارها رفعت السبابة بكلتا يديها إشارة على التوحيد لأنها لم تكن تستطيع الكلام. وبشكل عام فاستشهاد "رقية" وغيرها من الشهداء ليس إلا وقودا إضافيا للثورة، ودفعا للأمة في طريقها نحو التحرر من براثن الظالمين والمتجبرين. هذا بخلاف أن الاستشهاد يجدد العزم عند من بقي؛ فمثلا لدينا في العائلة شباب لم يكن لهم ناقة ولا جمل فيما يحدث، ولكن استشهاد رقية دفعهم دفعا للمضي في طريق كسر الانقلاب، فهم يعلمون من هي رقية وأنها ليست "إرهابية" بمفهوم الانقلاب، ولذا فاستشهادها حملهم حملا على رفض الانقلاب والعمل على مناهضته، ويقيني أن هذا يحدث في كل بيت وعائلة بها شهيد أو حتى مصاب. ف"رقية" الآن علمتنا جميعا معاني الرجولة والكرامة والعزة والحرية، وكيف يكون الإنسان عبدا حقيقيا لله عز وجل، وهي دروس يفنى الكثيرون ولا يتعلموها. ولذا فمن جانبي أؤكد الآن كافة الفتاوى السابقة التي أصدرتها من قبل ومن بينها أن إسقاط الانقلاب فرض عين على الشعب المصري بكل الوسائل المشروعة المتاحة. فهذا الانقلاب باطل شرعا وعرفا وقانونا وفاقد للشرعية والأهلية والولاية، وكل ما ترتب عليه من آثار فهو باطل ومنعدم وفاسد ولاغ.
ماذا تقول للأهل الذي بدأ يخاف على أبنائه خاصة من الفتيات؟ أقول لهم بالعكس؛ فالنساء قد خرجن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في المعارك، ونساؤه -صلى الله عليه وسلم- ونساء الصحابة قد خرجن؛ والشاهد في الأمر أن المرأة داخلة في قول الله تعالى: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".[التوبة. 71]. ونقول للأهل إن الذي يدير المعركة هو الله عز وجل، وهو سبحانه الذي سيعز دينه وينصره، فهذا الانقلاب على الإسلام وعلى ثوابت الدين والهوية، وهو يقود حربا صهيونية ماسونية شيعية شيوعية؛ أي أن كافة الأعداء قد اجتمعوا تحت مظلة هذا الانقلاب ليبدلوا هوية تلك الأمة وعقيدتها. ولذا فعلى الجميع أن يهب وأن يدافع عن دينه، فالإسلام ليس بالكلام وليس بتأدية الصلوات وفقط، ولكن بأن نأخذ هذا الدين بشموليته وكماله وتطبيق شريعته منهجا واقعيا في الحياة، أما من يخاف، فليس الجُبن هو ما يطيل العمر، ومن الأقوال المأثورة عن الإمام على –كرم الله وجهه-: أي يومين من الموت أفر *** يوم لا يقدر أم يوم قُدِر يوم لا يقدر لا أرهبه *** ومن المقدور لا ينجو الحذِر وكل هذا لا يعني جمود القلب وعدم الحزن، فقد بكيت ابنتي طبعا فهذا أمر طبيعي؛ والنبي –صلى الله عليه وسلم- قال في بكائه على ابنه إبراهيم لما توفي: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ...". ولكن الحزن لا يعني أبدا أن نضنّ على طريق الله عز وجل بأبنائنا، كذلك ففرحتي باستشهاد ابنتي لا يعني أبدا أني أسامح في حقها، فأنا خصيم هؤلاء الانقلابيين في الدنيا والآخرة.