(على رأسه ريشة) عبارة يطلقها المصريون على من لا يمكن انتقاده أو محاسبته على أفعاله، ولست أدرى مورد هذه العبارة على وجه التحديد، لكن هكذا هو معناها الدارج. وهى عبارة لا أرى حرجا فى أن أصوغ منها عنوان هذا المقال، ذلك أنك كلما وجهت نقدا لصحفى أو إعلامى على طريقة تناوله للأخبار أو تحليله للوقائع والأحداث، أو تعريضه وإساءته للرموز والأشخاص والهيئات؛ لاحقك الاتهام الجاهز بمعاداة حرية الإعلام، وبالتضييق على الحريات العامة، وبتأييد الاستبداد، إلى قائمة طويلة على هذه الشاكلة التى تصل أحيانا إلى حد يمكن وصفها معه بالابتزاز، ويا ويلك إذا سبّك صحفى أو افترى عليك أو حرض ضدك فرفعت الأمر إلى القضاء وطالبت بإعمال القانون، لأنك عندئذ –من وجهة نظر البعض- تسىء استخدام الحق القانونى وتسعى لتكميم الأفواه بالقانون! وكأن الأصل أن يقول الصحفى ما يشاء، وكأن الإعلاميين على رأسهم ريشة، ويمتنع نقدهم أو الحديث عن أخطائهم. والحقيقة أن الأمر فى حاجة لوقفة متأنية، فالإعلامى والصحفى هو صاحب مهنة من أعظم المهن، ويحمل رسالة فى غاية الأهمية، ودوره الحقيقى هو تنوير العقول وكشف الحقائق للرأى العام، ولهذا لا بد من وضع القوانين التى تكفل تزويده بالحقائق وإطلاعه على المعلومات، ولا بد أن يبدع ويبتكر فى طرق الحصول على المعلومات حتى يؤدى رسالته على خير وجه، ولا بد من حمايته وهو يمارس هذه المهنة الراقية بشكل يساعده على تقديم أفضل أداء لمصلحة الحقيقة والإنسانية والأوطان، لكن هل معنى ذلك أن يتم التغاضى عن اختلاقه وفبركته للأخبار؟ أو يمنع محاسبته على الكذب والتضليل المتعمد؟ أو يضحَّى بأعراض الناس وسمعتهم التى قد ينتهكها؟ أو يتم تجاهل التحريض على حياة الناس الذى قد يرتكبه؟ أترك الإجابة للإعلاميين وللقراء الكرام. انتقاد الأفكار والآراء والمواقف والتصرفات للأفراد أيا كانوا وأيا كانت مواقفهم الاجتماعية وكذلك انتقاد برامج ومواقف الجماعات والهيئات والأحزاب والمؤسسات الأهلية أو الحكومية، وكشف الانحرافات لدى الأفراد أو الأجهزة، كل ذلك أمر مشروع -بل مطلوب- ويسهم فى تصحيح الأخطاء ومنع أو تقويم الانحرافات وتنشيط عملية البحث عن الصواب. وإسهام الإعلام بكل صوره فى هذه العملية النقدية الموضوعية عمل يستحق الإشادة والتكريم والتقدير، وأى محاولة لتعويق هذه الجهود أو الضغط بأى صورة على الإعلاميين لمخالفة ضمائرهم وقناعاتهم الدينية والمهنية هى جريمة تتجاوز حدود الاعتداء على الصحفى وتعد اعتداء على الحقيقة ذاتها وعلى حق الأمة بشكل عام، ويجب أن يتصدى لها القانون بكل قوة وحزم؛ حرصا على توفير الأجواء الطبيعية لممارسة إعلامية حرة تبصّر الرأى العام وتسهم فى نهضة الوطن وحماية الشعب من الاستبداد والظلم. أما أن يتصور الإعلامى أن ميكروفون برنامجه أو صفحات الصحيفة التى يترأس تحريرها أو عمود مقاله الصحفى أو مساحة تقريره وتحقيقه هو أداة للإساءة إلى الآخرين أو الإهانة لهم والتحقير من شأنهم أو التحريض على مخالفة القوانين العامة أو الدعوة للاغتيال المادى أو المعنوى فهذا عبث، ولا أتصور أن إعلاميا نزيها محترما يقبل ذلك أو يسكت عليه، خصوصا إذا كانت الإهانة والتحقير والتحريض ضد رمز الأمة ورئيسها المنتخب لأول مرة فى تاريخها بحرية ونزاهة لا يختلف عليها عاقلان. لهذا فقد أثار حيرتى كثيرا هذا الموقف السلبى للجماعة الصحفية والإعلامية وجماعة (التوك شوز) من تطاول بعض المنسوبين للإعلام على السيد رئيس الجمهورية الذى وصل إلى حد تهديده على الهواء مباشرة، فى الوقت الذى ثار فيه بعض الإعلاميين حينما قامت مؤسسة الرئاسة بتقديم بلاغات ضد هؤلاء العابثين، وهو حق طبيعى لكل من يرى أن ثمة ظلما أو افتراء وقع عليه، وذلك لرفع هذا الظلم وكشف الحقائق ووقف التطاول والاعتداء، لكن البعض رأى فى الاحتكام للقانون ضيق صدر ونفاد صبر من السيد الرئيس، وكأن المطلوب أن يتقبل الإهانة والتحقير وأن يكون بليدا لا يتأثر! كنت أتوقع أن تُستَفَزَّ الجماعةُ الصحفية والإعلامية من المسلك الشائن الذى اتبعه نفر من المنسوبين إليهم فى تناولهم المسف لرئيس الجمهورية المنتخب، وأن يطالبوا المسىء بوقف الإساءة وتصحيح مسار النقد والاعتراض، لكن أغلبهم للأسف لم يفعل شيئا من ذلك، بل استكثروا واستنكروا أن تتقدم الرئاسة ببلاغ للقضاء! ومع كل ذلك فلا زلت مؤمّلا فى جموع الإعلاميين والصحفيين خيرا فى أن يضعوا بين يدينا نحن جماهير الأمة ميثاق شرف إعلاميا يرتضونه لمهنتهم السامية، ويسعون للالتزام به، ويكونون فى مقدمة المنتقدين لمن يتجاوزه، وألا يعتبروا أن على رأسهم ريشة تمنع من انتقادهم، أو تمنع من محاسبة المخطئين منهم، من غير انتقاص من الحريات أو اعتداء على الحق فى الحصول على المعلومات وتداولها بحرية تامة. مع الأستاذ خالد صلاح أسفت كثيرا لمحاولة بعض المتظاهرين أمام مدينة الإنتاج الإعلامى منع الأستاذ خالد صلاح من الدخول إلى المدينة، ومحاولة البعض منهم استعمال العنف مع السيارة التى كان يستقلها، فهذا سلوك مرفوض جملة وتفصيلا، والتظاهر السلمى للتعبير عن الرأى يجب ألا يمس حرية الحركة على الإطلاق، وألا يتجاوز حدود التعبير اللفظى المسموح به خلقا وشرعا وقانونا. ولهذا أطالب بسرعة التحقيق فى هذه الواقعة وملابساتها وكشف الحقيقة للشعب. أقول هذا مع تسجيل اختلافى مع كثير مما يطرحه الأستاذ خالد صلاح فى برامجه وكتاباته، ولكن ذلك لا يمنع من الاعتراف بحقه الكامل فى اعتناق ما يشاء من أفكار وحريته الكاملة فى التعبير عنها. أما ما لا أفهمه فهو ما نُقل عن اتهام الأستاذ خالد صلاح للدكتور عصام العريان والدكتور محمد البلتاجى بالتحريض عليه! مع أن كلا الرجلين والحزب الذى ينتميان إليه والجماعة التى ينتميان إليها، الجميع أعلن بكل وضوح رفضه القاطع لهذا التصرف من أولئك المتظاهرين الذين لم يدعهم أى من الرجلين أو الحزب أو الجماعة للتظاهر أصلا. ومما يستعصى على الفهم كذلك المناحة الكبرى التى انتدب بعض الإعلاميين والسياسيين أنفسهم للقيام بها تباكيا على حرية الإعلام وتخوفا من فرض الإرهاب على الصحفيين... إلى آخر الكلام الكبير من هذه العينة من العبارات ثقيلة الوزن، بل إن الأستاذ المحترم وائل الإبراشى يطالب السيد رئيس الجمهورية أن يقدم الجناة والمشاركين فى الاعتداء على خالد صلاح للمحاكمة، وإذا لم يفعلوا ذلك خلال ساعات فإنهم يؤكدون مسئوليتهم عن هذه الاعتداءات. ولست أدرى يا أستاذ وائل ما هو دخل السيد الرئيس فى ذلك؟ هل هو ضابط مباحث أو مأمور القسم التابع له المعتدون أو مدير أمن المنطقة التى يتبعها مثلا؟! ثم لماذا لم تحدث مثل هذه المناحة حين اعتدى على رئيس الوزراء ومجموعة من الرموز المصرية فى جنازة شهداء الواجب الوطنى، تحقيقا لمبدأ المساواة بين المواطنين فى ضمير الجماعة الصحفية والإعلامية؟ وهل مثل هذه المواقف يمنع اتخاذها إلا إذا كان المعتدَى عليه إعلاميا؟ هل على رأس الأستاذ خالد صلاح ريشة لأنه صحفى، بينما رأس السيد هشام قنديل ورؤوس الرموز التى اعتدى عليها معه عارية لا تحمل ريشا من نفس الجنس؟ نعم نحن ضد الاعتداء على الأستاذ خالد صلاح ومع إعلان نتيجة التحقيق فى الواقعة ومعاقبة المخطئ، لكننا أيضا ضد توظيف ذلك للإساءة إلى الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة اللذين تبرآ من هذا التصرف، كما أننا ضد التمييز لشخص ما لمجرد أن سيادته إعلامى، فكل المصريين متساوون فى الحرمة والكرامة والحقوق والواجبات والحريات، ولا يوجد أحد فى مصر (على رأسه ريشة).