يحاول الانقلاب فى مصر التقليل من سلطات المحكمة الجنائية الدولية التى خولها إياها نظامها الأساسى، ويهدف من ذلك الدفع برجاله للمضى قُدمًا فى تنفيذ سياسة القمع التى انتهجها منذ الوهلة الأولى لانقضاضه على الشرعية، خوفًا من إحجامهم عن ارتكاب مزيدٍ من جرائم القتل والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية التى تختص بها تلك المحكمة إذا أيقنوا أنه بانعقاد مسئوليتهم عن تلك الجرائم أمامها فإن يدها ستطالهم وفقًا لآلياتٍ محكمة لامناص منها، تلك الآليات يقوم عليها كيانٌ دولى يتمتع بحصاناتٍ وامتيازاتٍ تجعله غير قابلٍ للإرهاب أو التسييس كما هو الحال بالنسبة للقضاء الوطنى، وتلتزم الدول الأطراف فى النظام الأساسى للمحكمة -ومنها مصر- بتنفيذ ما يصدر عنها من أحكامٍ أو قرارات. وعن المسئولية الجنائية لقادة الانقلاب أمامها، فإن المادة 27 من النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية لا تجعل الصفة الرسمية للشخص -كرئيس أو مسئول فى الدولة- تحصنه من العقاب، ولا تجعل من ذلك سببا لتخفيف العقوبة التى توقع عليه، ومن ثم فإن تمتع الشخص بالحصانة خارجيا أو داخليا لا يؤثر فى مسئوليته الجنائية أمام المحكمة الجنائية الدولية، كما أن المادة 28 تقرر أن ارتكاب الشخص للفعل المكون لإحدى الجرائم الداخلة فى اختصاص المحكمة لا يعفى رئيسه من المسئولية الجنائية أمام المحكمة إذا علم أو قامت لديه دلائل معقولة أن ذلك الشخص يستعد لارتكاب الجريمة أو ارتكبها دون أن يتخذ الرئيس الإجراءات اللازمة لمنع ذلك الفعل أو المعاقبة عليه. أما عن مسئولية مرؤوسيهم الذين أصبحوا انقلابيين أكثر منهم، فإن المادة 33 قد أوردت أن الملتزم قانونا بتنفيذ الأوامر لا يعفى من المسئولية أمام المحكمة إذا كان يعلم أن تلك الأوامر غير مشروعة، وكانت الأوامر غير مشروعة بطريق واضحة، وافترض النص أن الأوامر الصادرة بالإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية غير مشروعة بطريقة واضحة أى أنها افترضت العلم بأن الأوامر الصادرة بارتكاب هاتين الجريمتين غير مشروعة بما يرتب المسئولية الجنائية لدى المحكمة لمن يقترف إثم تنفيذها، فلا يجوز الدفع بانتفائها تأسيسا على صدور أوامر من سلطة أعلى، إذ لا طاعة لمخلوق فى معصية حقوق الإنسان. ومن الجدير بالذكر أنه وفقا للمادة 15 فإن للمدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية -من تلقاء نفسه- أن يفتح تحقيقا بعد استئذان دائرة الشئون الخاصة بما قبل المحاكمة؛ إذا قامت لديه دلائل جدية على ارتكاب إحدى الجرائم الداخلة فى اختصاص المحكمة وفقا لما يرد إليه من بلاغاتٍ ومعلوماتٍ فى شأن ما يقع من تلك الجرائم، ودون حاجةٍ للإحالة من إحدى الدول الأطراف أو من مجلس الأمن أو من دولة غير طرف، وله تكرار الطلب - إن لم تأذن له الدائرة المذكورة - فى حال ظهور وقائع أو أدلة جديدة، وله - وفقا لما ورد بالمادة 54 - بعد استئذان الدائرة سالفة البيان إجراء التحقيق على أرض الدولة الطرف، وإصدار أوامر باستدعاءِ المتهمين والمجنى عليهم والشهود، وله أيضًا - وفقًا للمادة 58 - أن يستصدر من الدائرة آنفة الذكر أمرًا بالقبض على المتهمين، وقد ألزمت المادة 59 كافة الدول الأطراف بتنفيذ أوامر القبض. وعملًا بالمادتين 86، و93 تلتزم الدول الأطراف بالتعاون مع المحكمة بطريقة كاملة بخصوص التحقيقات التى تجريها، والمعاقبة على الجرائم التى تدخل فى إطار اختصاصها، وتلتزم بأن تستجيب لأى طلبًاتٍ خاصة بتعقب المطلوبين للمثول لدى المحكمة واستجوابهم بمعرفتها ونقلهم إليها، وتنفيذ أوامر التفتيش والحجز والمعاينة واستخراج الجثث، وجمع الأدلة وسماع الشهود، والتحفظ على متعلقات الجرائم تمهيدًا للحكم بمصادرتها، وحماية المجنى عليهم والشهود والمحافظة على الأدلة وتقديم المستندات والأوراق الرسمية لدى طلبها، وغير ذلك من التدابير التى تكفل حسن أداء المحكمة فى تقديم العدالة المنشودة منها. وتحدثت المادة 70 عن اختصاص المحكمة بالجرائم المخلة بإقامة العدالة كشهادة الزور وتقديم أدلةٍ مزورةٍ أو زائفةٍ وإرهاب الشهود أو تعطيل مثولهم أو الانتقام منهم، وتدمير الأدلة أو العبث بها أو التأثير على جمعها، وهو ما يبسط سلطان المحكمة على رأس الانقلاب وأذنابه الذين أحرقوا جثث القتلى فى رابعة والنهضة إخفاءً لمعالمِ جرمهم، ودمروا أدلة إدانتهم - لملاحقتهم بجرائم جديدةٍ تضاف إلى سجلات سوابقهم. لقد غلظ المشرع الجنائى الدولى العقاب عن الجرائم المنصوص عليها فى المادة 5، فارتفع بعقوبة السجن إلى ثلاثين عامًا، وأفرد عقوبة السجن المؤبد للجرائم التى تشكل خطورةً إجراميةً بالغةً بالنظر إلى جسامتها أو خطورة مرتكبيها بخلاف الغرامة والمصادرة، أما الجريمة المنصوص عليها فى المادة 70 فقد عاقب عليها بالسجن الذى لا يتجاوز خمس سنواتٍ، أو الغرامة، أو بالعقوبتينِ معًا، ويكون تنفيذ الحكم الصادر بالسجن - وفقًا للمادة 103 – فى الدولة التى تعينها المحكمة، أوفى السجن الذى توفره دولة هولندا الكائن بها مقر المحكمة، ويجرى التنفيذ -وفقًا للمادة 106- تحت إشراف المحكمة. وأتحدث -أخيرًا- عن النظام القضائى فى مصر ومسئولية القضاة الجنائية أمام المحكمة الجنائية الدولية، فقد بان للكافة أن العدالة فى مصر تعنى الحكم بإدانةِ كل المعارضين للانقلاب، وتبرئةِ أنصاره وفلول النظام السابق الذى استنسخ نفسه من رحمه، ليس هذا فحسب، بل إن الأحكام الصادرة بإدانةِ معارضيه تتسم بالتغليظ المبالغ فيه للعقاب بالمخالفة للقانون ومبادئ العدالة، لقد شارك القضاةُ فى الإعداد لذلك الانقلاب مستغلين ما يقرره لهم القانون من حصانة، وتحول نادى القضاة إلى أحد ثكنات العسكر التابعة لهم، فانخرط - مخالفًا القانون ومقتضيات العمل القضائى - فى الاشتغال بالسياسة، وفتح أبوابه للمعارضة السياسية لنظام الحكم القائم للمشاركة فى مؤتمراته التى أعلن فيها خصومته السياسية له، ودعا للامتناع عن تنفيذ قوانين الدولة مبديًا استخفافه بمؤسسات الحكم والتشريع فى الدولة، ومارس أشد أنواع العمل السياسى عنفًا حين حرض على حصار النائب العام لإجباره على الاستقالة، ودعا أعضاء النيابة العامة والقضاة إلى الامتناع عن العمل فى النيابات والمحاكم، واستعدى دولًا أجنيةً ضد وطنه، ثم صرح بدعوته لقلب نظام الحكم بالمشاركة فى تظاهرات 30 يونيو، وقد انتهى الأمر إلى أن يبرز رئيس مجلس القضاء الأعلى لحضور المشهد الانقلابى فى سابقةٍ لم يشهدها التاريخ القضائى من قبل، فكانت مصر أول دولةٍ يقوم قضاتها بانقلاب لا يقل دورهم فيه عن دور العسكر، مستحدثين نوعًا جديدًا من الانقلابات لم يُعرف من قبل هو الانقلاب القضا عسكرى، ثم تولى بعد ذلك مهمة التخلص من أنصار الشرعية انتصارًا لانقلابه. أتساءل هل يمكن -بعد ذلك- أن يقول عاقلٌ إن مصر فيها قضاء؟ وهل يصلح للقضاءِ قضاةٌ حنثوا بيمينهم الذى أقسموه يوم ولوا القضاء أن يحكموا بالعدل بين الناس وأن يحترموا الدستور والقوانين؟ إنهم لم يحترموا الدستور يوم عطلوه، وها هم الآن يشاركون فى الاستفتاء على مسخه، ولم يحترموا القوانين يوم دَعَوا إلى عدم تنفيذها، يوم خالفوها وارتكبوا جرائمَ يُعاقبُ عليها، ولم يحكموا بين الناس بالعدل يوم غضوا الطرف عن المذابحِ التى شهدها العالم وقالوا إنهم لم يشهدوها، يوم أدانوا المجنى عليه وبرأوا الجانى، يوم لعنوا القتيل وباركوا القاتل، إننى أقول وبثقة إن النظام القضائى فى مصر قد انهار، وبذلك ينعقد الاختصاص الأصيل للمحكمة الجنائية الدولية إعمالا لنص المادة 17 من نظامها الأساسى، الذى يقضى بانعقاد اختصاصها فى حالة انهيار النظام القضائى فى الدولة، أو عند رفض أو فشل القضاء الوطنى فى ملاحقة مرتكبى الجرائم التى تدخل فى اختصاص المحكمة ووفقًا لنص المادة 7 من النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية البند 1 / هاء والذى ينص على: " 1 – لغرض هذا النظام، يُشكِل أى فعلٍ من الأفعال الآتية جريمةً ضد الإنسانية متى ارتُكب فى إطار هجومٍ واسع النطاق أو منهجى موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين وعن علمٍ بالهجوم.. (هاء) السجن أو الحرمان الشديد على أى نحوٍ آخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولى...... " فقد عرَّف المشرع الجنائى الدولى الجرائم ضد الإنسانية بأنها جرائم القتل العمد والإبادة والسجن بالمخالفة للقواعد الأساسية للقانون الدولى وغير ذلك مما نصت عليه المادة متى ارتُكبت ضد مجموعةٍ من السكان المدنيين على نطاقٍ واسع أو بشكلٍ ممنهج، وبالتالى فإن أحكام السجن التى تصدر ضد جماعة الإخوان المسلمين أنصار الرئيس الشرعة للبلاد وقرارات الحبس وتجديد الحبس التى صدرت وتصدر بالآلاف ضدهم - على نطاقٍ واسعٍ - دون كفالة حق الدفاع، ودون تطبيق ذات المعايير التى تُطبق على من سواهم، أو التى دأبت المحاكم على تطبيقها -من قبل- واستقر العمل القضائى عليها، وإسناد قضايا معينة إلى قضاةٍ بأعينهم على نحوٍ انتقائىٍ فج، وعدم مراعاة القواعد المتبعة فى المحاكمات الجنائية فى قضايا بعينها دون باقى القضايا، يؤكد أن العدوان على العدالة منهجى، كل ذلك يخالف ما ورد بالإعلان العالمى لحقوق الإنسان، ويتنافى مع كل المواثيق الدولية ومبادئ العدالة والقواعد الأساسية للقانون الدولى، ويشكل الركن المادى لإحدى الجرائم ضد الإنسانية. إن المسئولية الجنائية الدولية لقضاة الانقلاب موثقةٌ بعدد أحكام الإدانة وقرارات الحبس وتجديد الحبس التى صدرت دون سندٍ من الواقع أو القانون، ودون كفالةٍ لحق الدفاع وقواعد المحاكمات الجنائية، بقى أن تصدر فى حق كلِ من انتهك العدالة وخان أمانتها قراراتُ المحكمة الجنائية الدولية بالقبض عليه تمهيدً لمحاكمته، أم أنهم لا زالوا يعتبرون أن الذهاب إلى لاهاى مجرد نزهة. _____________________ رئيس محكمة المنصورة، عضو المكتب التنفيذى لحركة قضاة من أجل مصر، رئيس حملة "الشعب يدافع عن دستوره ضد الانقلاب".