بقدر ما نستطيع كمصريين تذوق كرة القدم وهضمها وتحليلها، بقدر ما تمتلئ ثقافتنا الرياضية بمجموعة من الأكاذيب والحجج سابقة التجهيز التي ساهم الإعلام في تدعيمها عبر سنوات من التكرار لتفسير إخفاق أو تبرير هزيمة. دائما الثقة الزائدة هي السبب في أي خسارة، والروح العالية هي السر وراء أي انتصار، والفشل في عبور فريق تونسي سببه عقدة شمال إفريقيا، والتوهان أمام منتخب إفريقي ضعيف يعود إلى صعوبة مواجهة الفرق العشوائية. كل ما سبق يمكن إدراجه تحت عنوان بسيط اسمه "كليشيهات" أو القوالب المحفوظة التي يتم فضحها حينما يحاول أحدهم دراسة الأسباب الحقيقية للمكسب أو الخسارة بعيدا عن الثقة والروح ومفهوم العقدة والسحر والشعوذة. وربما تكون عبارة "سلاح العشوائية" هي أغرب هذه القوالب وأكثرها إثارة للدهشة، وتكررت في كل الاستوديوهات التحليلية على مختلف القنوات الفضائية قبل لقاء الزمالك مع بني عبيد في كأس مصر. فعلى الرغم من أن العبارة تناقض نفسها ولا تتفق مع أي منطق، فإن تكرار هذه الحجة في تصريحات اللاعبين والمدربين وآراء الخبراء في البرامج التحليلية وكتابات النقاد في أعمدة الصحف والمواقع الرياضية جعلها تلبس ثوب الحقيقة التي لا ريب فيها، وأدخلها في قائمة ما هو "معلوم من الكرة بالضرورة". الزمالك ضرب هذه النظرية في مقتل بالفوز 6-صفر في لقاء شهد سيطرة لمدة 90 دقيقة على مجريات الأمور بشكل كامل، على الرغم من أن حوالي خمسة أو ستة لاعبين ممن خاضوا اللقاء كانوا ضمن الفريق الذي تلقى خسارة تاريخية من بني عبيد نفسه في كأس مصر قبل عامين فقط. وربما يظن البعض أن الوقوف عند هذه المباراة هو إهدار للوقت، لأن الزمالك بمستواه الحالي من المفترض أن يحقق فوزا كبيرا على فريق في الدرجة الأدنى ولا ينافس حتى للصعود إلى الممتاز. ولكن أهمية المباراة تكمن في قدرة حسام حسن على طرح السؤال الصعب والإجابة عنه أيضا: كيف تكون العشوائية سلاحا في يد صاحبها في مواجهة فريق يعرف لاعبوه أدوارهم ويحفظون مهامهم في الملعب؟ وكيف يصبح التنظيم نقمة على صاحبه بدلا من أن يرفع كفاءته وفرصه في الفوز؟ ما هي العشوائية؟ وفقا للمحلل الإنجليزي الأشهر جوناثان ويلسون، فإن العشوائية في الأداء تعني الاعتماد على المهارات الفطرية التي يتمتع بها اللاعبون مثل القوة والسرعة والارتقاء بدلا من اللعب الجماعي وتوظيف المهارات الأساسية هذه لتكوين مجموعات لعب تخدم الفريق ككل. وتزيد نسبة العشوائية والفردية في الأداء كلما كانت المباريات في الدرجات الأدنى، وبالمقابل تخفت تدريجيا كلما ارتفع المستوى حتى تختفي تماما مع مستويات القمة مثل المراحل المتقدمة في دوري أبطال أوروبا أو كأس العالم. والعشوائية بهذا التعريف هي مرض وليست سلاحا، لأن اللاعب الواحد مهما امتلك من قوة بدنية رهيبة، أو سرعت عالية، أو تسديدات قوية لا يستطيع أن يواجه فريقا منظما يواجهه بأسلوب يبطل مفعول مهاراته، لأنه في هذه الحالة لا يدخل صراعا فرديا بدائيا، ولكنه يضطر إلى مواجهة "مجموعة لعب" مكونة من لاعبين أو أكثر يساندها أخرون في أداء الواجب الهجومي والدفاعي. كيف تتعامل معها؟ إجبار الفريق الأدنى منك في المستوى على اللعب بطريقتك أنت، بدلا من أن يستدرجك للعب بطريقته، فلا تدخل في صراعات فردية سواء هجومية أو دفاعية بل تخلق مواقف تكون فيها الكلمة العليا للأداء الجماعي، الذي تفشل الفرق العشوائية في التعامل معه. حسام حسن صنع هذه المواقف ببراعة في لقاء الكأس، فوضح منذ البداية أن لاعبي الزمالك تدربوا خلال الأيام الماضية على أكثر من سيناريو لتنفيذ الركلات الثابتة سواء ركنيات أو أخطاء حول منطقة الجزاء، وهو أمر بديهي لأنه كان متوقعا أن يلجأ لاعبو بني عبيد إلى بعض الخشونة حينما يشعرون بالخطر خاصة مع الدقائق الأولى. الدقائق ال14 الأولى من المباراة شهدت احتساب ثلاث ركلات ثابتة للزمالك، تم تنفيذ كل منهم بطريقة مختلفة، وأثمر اثنان منهما عن هدفين. فالركنية الأولى رفعها شيكابالا على رأس عمرو الصفتي على العارضة البعيدة فيما تعلقت عيون مدافعي بني عبيد بالكرة، فما كان من الصفتي أن أعادها إلى محمود فتح الله الذي كان خاليا تماما من الرقابة، وهو أحد عيوب العشوائية في الدفاع. الهدف الثاني من ركنية نفذها لم يرفعها شيكابالا من مرة واحدة بل بعد تمريرة قصيرة على حدود المنطقة، وحدث أيضا ما هو متوقع من ترك لاعبي الزمالك بلا رقابة ليضع هاني سعيد الكرة مستريحا. الأهداف الثالث والرابع والخامس جاءت كلها من كرات عرضية بعد اختراقات نتجت عن نقل الملعب سريعا من جانب إلى أخر. فعيون لاعبي بني عبيد دائما تتجه إلى الكرة بلا حساب للمساحات الخالية خلف كل منهم، وهي أوضح أمراض العشوائية وعدم الالتزام بالواجبات والمراكز، فكانت الكرة تنتقل من اليمين إلى اليسار بتمريرات سريعة ليجد المدافع نفسه وحيدا أمام اثنين وأحيانا ثلاثة من أصحاب القمصان البيضاء. وأداء الزمالك في هذا اللقاء هو امتداد للمستوى طوال الفترة الماضية، التي لم تشهد استعراضات مبالغ فيها في المهارات أو محاولات للتسديد من مسافات غير معقولة أوالاعتماد على المراوغات غير المجدية. السلاح الثاني الذي اعتمد عليه حسام حسن أمام "خطر العشوائية" كما يحلو للبعض أن يسميه، هو قتل حماس المنافس منذ البداية، واستغلال جميع الفرص لسحق المنافس مبكرا حتى لا يترك له مجالا – ولو نظريا – للعوة للقاء. لاعبو بني عبيد يدركون جيدا أن النتيجة محسومة لصالح الزمالك، ولكن من المؤكد أن الحديث الأخير للمدير الفني في غرفة تغير الملابس قبل دخول ملعب استاد القاهرة تكون من عبارات من نوعية "الفوز مش مستحيل .. احنا 11 راجل وهم 11 راجل .. زي ما عملناها قبل كده ممكن نعملها تاني". هذه العبارات يكون لها أحيانا مفعول إيجابي على اللاعبين، ولكنهم يعودون إلى أرض الواقع فور اهتزاز شباكهم بالهدف الأول لاسيما وإن كان مبكرا، ومع توافد الأهداف يبدأ الفريق في إدراك أن عبارات بث الحماس ليست كافية، وبالتالي يرفعون الراية البيضاء، وهو أسلوب يستخدمه (مع الفارق الفني بالطبع) برشلونة في مواجهة جميع منافسيه سواء كان ألمريا أو ريال مدريد. 6-صفر وإن كانت نتيجة منطقية للقاء في كأس مصر بين الزمالك وبني عبيد، فإنها تفتح الباب من جديد أمام مناقشة مفهوم "خطورة الفريق العشوائي" وهي العبارة التي ألهمت أحد مقدمي الاستوديو التحليلي في الجزيرة الرياضية ذات مرة لإحراج زكريا ناصف على الهواء عندما فشل الأخير في تفسيرها بعدما ارتكز عليها لتحليل نتيجة غير متوقعة!