فى الوقت الذى صاح فيه الرئيس «السيسى» مطالباً بتجديد الخطاب الدينى وتنقيته من شوائب التراث الضالة، وقد أغضبه أن تفسد الفتاوى المسمومة والدعوات الظلامية المكفرة مسيرة أمة تسعى إلى النهوض من كبوتها لاستشراف مستقبل جديد، فإذا بالرد القاسى أن يوضع المفكر فى السجن ويبقى المروجون للعنف والتزمت والانغلاق ينعقون خارجه، يدخل «إسلام بحيرى» الزنزانة وتتبعه «فاطمة ناعوت» التى حكم عليها بالحبس ثلاث سنوات، ويأتى الحكم فى الحالتين بالمخالفة لنصوص الدستور المصرى التى تمنع الحبس فى قضايا حرية الإبداع والنشر، إنها عودة لقضايا الحسبة التى ناضل المثقفون المصريون من أجل إلغائها والتصدى لمن ينصّبون أنفسهم رقباء على العقل وعلى حرية التفكير والتفسير، والحكم بهذا الشكل -على حد تعبير نقابة الصحفيين- يأتى ليغلق من جديد باب الاجتهاد فى وجه المبدعين والمطالبات بثورة دينية لتخليص الدين من الرؤى المنغلقة، وبذلك يعد حكم الحبس صدمة لكل جهود التنوير وهدماً لفكرة تجديد الخطاب الدينى. وفى الوقت الذى أعلن فيه البابا «تواضروس» أنه يجب أن تمد الكنيسة أيديها نحو الجميع بلا تفرقة أو تمييز وفى إطار المحبة المسيحية التى أرسى دعائمها السيد المسيح، دون الدخول فى تفاصيل دينية وعقائدية وممارسات طقسية، تجددت الخلافات بين الأرثوذوكس والإنجيليين البروتستانت مرة أخرى وعاد الطرفان للاشتباك والتراشق اللفظى على أثر رفض كنيسة أرثوذوكسية بقرية «أتليدم» بالمنيا الصلاة على زوجين إنجيليين لقيا مصرعهما خنقاً بالغاز عقب ليلة الزفاف، وكان كاهن الكنيسة الإنجيلية قد سافر خارج القرية وأغلق الكنيسة، مما دعا أهالى المتوفين إلى اللجوء إلى الكنيسة الأرثوذوكسية، لكن كاهنها رفض الصلاة معللاً ذلك أن العقيدة الأرثوذوكسية تمنع الصلاة على غير الأرثوذوكسيين، بينما فى مفارقة تستحق التأمل اقترح عدد من أهالى القرية المسلمين الصلاة بالمسجد لحل الأزمة. أما حديث البابا عن روح المحبة والتسامح فيناقضه للأسف -الحوار الذى تم بينه وبين شاب قال له متسائلاً من خلال مؤتمر دينى- منذ أن كنت نيافتكم أسقفاً وأنت تحلم بكنيسة واحدة، فهل من الممكن استقبال المخالفين لنا فى العقيدة ليعلموا ويعظوا داخل كنيستنا فى سبيل تحقيق تلك الوحدة دون أن نعتبرهم من «الهراطقة»؟ فإذا به يرد عليه: لا يُسمح بدخول الهراطقة، سؤالك خبيث، اتفضل اقعد. وإذا علمنا أن «الهرطقة» تعنى «التجديف» والخروج عن الثوابت العقائدية «أى الكفر بها» فإن الواقعة الأخيرة لرفض الصلاة على الجثامين تذكرنا بالواقعة المؤلمة التى حدثت منذ سنوات، أثناء وجود قداسة البابا شنودة على الكرسى البابوى المقدس، وعلى أثر خلاف مع القس «إبراهيم عبدالسيد» الذى ظل أهله يطوفون بنعشه بعد موته على كافة الكنائس لإقامة الصلاة على جثمانه، وهم يرفضون بناء على تعليمات بعقابه لخروجه عن الصف الإيمانى الذى لا يسمح له بالمعارضة أو إبداء الرأى فى الأمور الخلافية بل عليه «السمع والطاعة» فقط، حتى أنقذ الموقف قس كاثوليكى -على ما أذكر- وصلى عليه بكنيسته وبناء على مسئوليته الشخصية، بل إن ما يحدث يعيدنا إلى العصور الوسطى حيث محاكم التفتيش، فمن يستعرض مثلاً حياة الفنان المسرحى الكبير «موليير» (1622 - 1673) الذى أضحك الملايين فى عصره والعصور التالية بمسرحياته الكوميدية الخالدة مثل المتحذلقات «وطرطوف» و«عدو البشر» يتبين لهم أنه كان يعانى من الاكتئاب الذى لازمه فترات طويلة من حياته، خاصة بعد عرض مسرحيته «طرطوف» التى هاجم فيها ازدواجية الذين يتسربلون بأردية التقوى والفضيلة ويتسترون وراء الدين وهم فى حقيقة الأمر يسعون إلى ما يتناقض مع تعاليم الدين السمحة ومكارم الأخلاق، لذلك تعرض موليير لهجوم ضارٍ من الكهنة الذين قاموا بازدرائه وتكفيره، فقال أحدهم إنه «شيطان متجسد فى ثوب رجل، وهو أشهر مخلوق فاسق عاش على الأرض حتى الآن وجزاء تأليفه «طرطوف» هو أن يتم حرقه على الخازوق ليذوق من الآن نار الجحيم»، وحينما مات «موليير» على خشبة المسرح بعد أن أدى دوره انتقم منه رئيس الأساقفة برفض السماح بدفنه فى مقابر المسيحيين لأنه كان يعده خارجاً عن الدين، ولم تجد زوجته حلاً سوى أن تتوسل للملك ليتدخل فأصدر أمره فى السر إلى رئيس الأساقفة بتغيير موقفه فاضطر أن يسمح بدفنه فى هدوء فى ركن قصى من مقبرة (سان جوزيف) دون أن يؤخذ جثمانه إلى الكنيسة لإجراء الشعائر الدينية. والآن وقد صرنا فى قبضة دولة دينية، ماذا علينا أن نفعل؟! هل لنا أن نحلم يوماً ما بأن ننعم بالحياة فى ظل دولة مدنية حقاً؟! أم سنظل نتنسم رحيق عصر النهضة فى عشرينات القرن الماضى، حيث كتابات «العقاد» و«الزيات» و«المازنى» و«مى زيادة» من تلاميذ «الطهطاوى» و«الأفغانى» والشيخ «محمد عبده» و«قاسم أمين» والشيخ «على عبدالرازق» و«لطفى السيد» و«طه حسين» و«سلامة موسى»، ومن خلال أحرف النور التى سطروها تفتح وعينا، وترسخت قناعاتنا بمعانى الحرية، حرية الرأى وحرية التعبير، وحرية الحب، وحرية الاختلاف، وحرية الاعتقاد، وحرية الفكر. وتعمدنا فى مياه التمرد وجدل الفكر، وتحطيم أوثان الجمود والجهامة، وانطلقنا نحلم بعالم مختلف وإنسان مختلف ودنيا جديدة ننسف فيها المقدسات الزائفة، ونحرق الكتب القديمة، واللغة القديمة، والتابوهات القديمة، والأوراق الصفراء العتيقة، والمسلمات البالية والمعتقدات المتخلفة، وإشعال النار فى قوالب الأصوليين الجامدة، والثورة على كهنة المنع والمصادرة وسلاطين التحريم والتجريم وفرض الوصاية باسم الدين، وشيوخ الحسبة وفقه التكفير. أتذكر الآن الماضى الجميل وأتحسر عليه، وأسترجع ما قرأته عن صالون «مى» الذى كان يضم عباقرة ورواد الفكر والثقافة والأدب، وكانت تشتعل فيه المعارك الفكرية بين أصحاب الفكر الجديد والمدارس التراثية، منهم المحافظون والثوريون، المتشددون عقائدياً، والمتطلعون إلى آفاق العلم اللانهائية، وكان «شبللى شميل» العالم والشاعر وأول من ترجم أصل الأنواع ل«داروين» ينحاز للعلم ويعادى الجميع، ويجاهر بإلحاده، وكانوا يسخرون منه فيغضب تاركاً الصالون صائحاً: يا أُدباتية يا أولاد الكلب، فتداعبه «مى» قائلة: ولماذا لم تقل يا أولاد القرود؟! لكنه لما مرض مرض الموت زاروه جميعاً، ولما مات أقاموا له حفل تأبين، وألقى فيه «حافظ إبراهيم» قصيدة رثاء رائعة أشاد فيها بعلمه وعبقريته. فسلام عليك أيها الزمن الجميل