موضوع الترجمة إلى لغة أجنبية بات يشغل الكثير من المبدعين فى العالم العربى، فالقليل ممن يترجَم لهم يعتبرون أنفسهم قد دخلوا من بوابة العالمية ليقتحموا العالم أو ينعتهم البعض بأنهم كتاب عالميون، وأنا أتحفظ كثيراً على التساهل فى منح هذا اللقب وأعتبره من باب المدح والمجاملة، وكثير ممن لم يترجَم لهم يحنقون على أهل الترجمة وعلى أوروبا ويلعنون حظهم العاثر الذى ضيع منهم فرص الترجمة وأعطاها لمن لا يستحقون. *** منذ فترة ليست بالقصيرة وهناك سؤال كان يوجه لى على استحياء: فبما أننى أعيش فى النمسا منذ أكثر من ربع قرن وأجيد الألمانية؛ لماذا إذن لا أترجم إبداع زميلاتى وزملائى إلى هذه اللغة لتعريف العالم الألمانى بآدابنا؟ السؤال هنا ليس عيباً ويحتمل من البعض الكثير من الصدق، لكن يعوزه فهم ماهية الترجمة ومهمتها. بعد دخول «النت» إلى عالمنا وتعدد وسائل النشر والتواصل عبره، وانتشار «الفيس بوك» على وجه الخصوص وانهمار الأصدقاء الافتراضيين بغزارة، اعتبر البعض أن النشر فيه يعادل النشر الورقى وأن تعقيبات الأصدقاء تغنى عن النقد الدارس والواعى. صار السؤال الذى كان يوجه لى على استحياء، يعود بنوع من العتاب، ثم تحول السؤال المعاتب إلى سؤال يحمل نوعاً من التأنيب، بأننى لا أقوم بالدور الإلزامى فى الترجمة. *** السؤال الموجه لى هو: لماذا لا تترجم آدابنا العربية إلى الألمانية؟ وردى المختصر هو أننى أعتبر أن الترجمة مهنة وفن وتخصص وامتلاك كفء للغة. ردى التفصيلى هو رغم أننى أقيم فى فيينا منذ 29 سنة تقريباً، ورغم أننى أُدرّس وأحاضر فى مهارات الترجمة عن الألمانية فى واحدة من أعرق الجامعات الأوروبية وهى جامعة جراتس، إضافة لجامعة فيينا، ورغم أننى أتحدث بنسبة 90 فى المائة من حديثى اليومى باللغة الألمانية؛ فإننى لا أجرؤ على التصدى لترجمة نص أدبى ترجمة تحريرية أرضى عنها؛ فالترجمة تحتاج تبحرا لا نهائى فى اللغة الألمانية وقراءات لا تتوقف وامتلاك ناصية هذه اللغة كاللغة الأم تماما. يمكننى مراجعة النص المترجم عن العربية إلى الألمانية وإبداء الرأى فيه، وسؤال صاحب اللغة الأم عن معانٍ أخرى أفضل وعن سياقات أحسن، لكن كل هذا لا يمكننى من اللغة الألمانية كأهلها الذين نشئوا بها. ما أفعله هو العكس: أن أترجم عن الألمانية إلى العربية، وقد قمت بهذا كثيراً، وترجمت شفوياً فى المسائل العادية التى لا تحتاج إلى سياق أدبى رفيع أو نصاعة لغوية، وترجمت أيضاً وثائق ومستندات تحتاج للدقة فقط، لكن الدقة وحدها لا تكفى للتجرؤ على ترجمة النص الأدبى. *** حين أفكر فى ترجمة نصوصى من العربية إلى الألمانية أو ترجمة نصوص الآخرين، ألجأ بالضرورة إلى أصحاب اللغة الأم، وأعمل معهم كمساعد فى التوصل لأفضل وأعمق وأقرب ترجمة للنص تفيد القارئ الألمانى، ولا تفيدنى أنا كبطل ترجمة بارعة لن أصل إليها. والترجمة عمل أيضاً مثل كل الأعمال وتحتاج لوقت وجهد ومال، وقد قلت إن روايتى الأخيرة (بيت النخيل) كلفت فقط مراجعتها وتصحيحها فى اللغة الألمانية (وليس ترجمتها) (1170 يورو) ألف ومائة وسبعين يورو من المصححة المتخصصة لتراجعها مراجعة تفصيلية لتكون خالية من أى تناقض فنى أو لغوى غير مراجعة علامات التنقيط والمسافات والقطع والوصل! أقول رفقاً بالترجمة الأدبية والمترجمين للأدب! الترجمة الأدبية عمل جبار، يحتاج إلى «مترجم» موهوب وليس إلى ترجمان يردد باللسان!