سبق أن ذكرنا أن الموت حق يتساوى فيه جميع الناس إلا أنهم يختلفون فى مراتبه، فليس من مات طفلاً كمن مات بالغاً، وليس من مات على سريره بوجه معتاد كمن مات شهيداً أو بصفة الشهادة. واستوفينا الحديث عن مرتبة موت الأطفال، ونستعرض فيما يلى مرتبة الشهداء. الشهادة فى اللغة تعنى الإخبار بما رأى، أو الإقرار بما علم. تقول: شهد على كذا، أى أخبر به خبراً قاطعاً. والشهادة فى اصطلاح الفقهاء لها إطلاقان: (1) إطلاق خاص وهى الشهادة الحسية التى تكون بالقتل فى ساحة المعركة عند مواجهة الأعداء المعتدين فى الجملة. وهذه الشهادة ترتب شرفاً لصاحبها يوم القيامة لا يدانيه شرف بعد الأنبياء والصديقين، وحسبنا قول الله تعالى: «ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون» (آل عمران: 169). ولا يجوز عند أكثر الفقهاء -خلافاً للحسن البصرى وبعض قليل من الشافعية والحنابلة- أن يُغسّل هذا الشهيد، بل يجب دفنه بثيابه الذى قُتل فيه. كما ذهب جمهور الفقهاء -خلافاً للحنفية وبعض الشافعية والحنابلة- إلى تحريم الصلاة على هذا الشهيد؛ لأنه ليس فى حاجة إلى شفاعة أحد بعد شفاعة دمه، وقد أخرج البخارى عن جابر بن عبدالله أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال فى شهداء أحد: «ادفنوهم فى دمائهم» ولم يُغسّلهم. وفى رواية: أمر بدفنهم فى دمائهم ولم يُغسّلوا ولم يصلَّ عليهم. (2) إطلاق عام للشهادة ويشمل مع الشهادة الحسية الشهادة الحكمية، وهى لمن مات فى صورة الشهادة الحقيقية كمن مات غريقاً أو حريقاً أو تحت الهدم أو تحت فرسه ويدخل فى ذلك حوادث السيارات والقطارات والطائرات. وهذه الشهادة ترتب ارتقاء أصحابها منازل الشهداء فى الآخرة، ولكنهم يعاملون فى الدنيا معاملة سائر الموتى من الغُسل والتكفين والصلاة عليهم فى الجملة. وإنما تفضل الله تعالى على هؤلاء برفعهم إلى مراتب الشهداء فى الآخرة لما نالوه من شدة فى الموت أكثر من غيرهم، فجعل تلك الميتات تمحيصاً لذنوبهم زيادة فى أجرهم وثوابهم. ويدل على منزلة هؤلاء الشهداء أحاديث كثيرة منها: ما أخرجه مالك عن جابر بن عتيك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «الشهداء سبعة سوى القتل فى سبيل الله: المطعون شهيد، والغَرِق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحَرِق شهيد، والذى يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع -أى حامل- شهيدة». وفى رواية لأحمد عن أبى هريرة زيادة: «والخار من دابته فى سبيل الله شهيد». وإذا اجتمعت مراتب الحظوة الربانية بالعبد كانت تأكيداً على فضل الله ورحمته، كما وقع بهؤلاء الأطفال الأبرياء الذين ماتوا فى صورة الشهادة الأخروية تحت عجلات القطار أو فى حوادث المواصلات ونحوها، فليهنأ ذووهم بأمانهم يوم الخوف وليستبشروا بشفاعتهم يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه إلا هؤلاء سيسعون إلى آبائهم وذويهم يشفعون لهم. بقى الدرس الذى سطّره هؤلاء الأطفال بدمائهم وهم يرحلون من الدنيا إلى جنة الخلد أن أفيقوا أيها الآباء واتخذوا من الأسباب ما يحمى أرواح الأبرياء التى تخرج ساخطة ولاعنة المهملين من الموظفين والمسئولين الواجب إعلامهم ما أخرجه مسلم عن أبى ذر قال: قلت يا رسول الله: ألا تستعملنى؟ قال: فضرب بيده على منكبى، ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزى وندامة إلا من أخذ بحقها وأدّى الذى عليه فيها».