بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام علي رسول الله، وبعد: تحدث الفقهاء عن حكم صلاة الجنازة علي الشهيد فأوجبها الحنفية، ومنعها المالكية والشافعية، إما منع تحريم أو منع كراهة، والحنابلة لا يرون الصلاة علي الشهيد في أصح الروايتين لديهم. وفي رواية عندهم تجب الصلاة عليه، ومال إلي هذا بعض علمائهم منهم الخلال، وأبو الخطاب وأبو بكر بن عبد العزيز في التنبيه. فإذا كان الحديث عن صلاة الغائب، والتي هي بديل عن صلاة الجنازة لمن لم يحضر الميت، فقد اختلف العلماء في حكم الصلاة علي الغائب، فمنعه جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية وغيرهم ، وأجازه الشافعية والحنابلة. وقد صح أن النبي -صلي الله عليه وسلم- صلي علي النجاشي حين مات بأرض الحبشة صلاة الغائب هو ومن معه من الصحابة، فرأي بعض الفقهاء أن هذا خاص به – صلي الله عليه وسلم-. ورأي آخرون أن هذا خاص بمن مات في أرض لم يُصل عليه فيها أحد، وهذا اتجاه قوي قال به شيخ الإسلام ابن تيمية. ورجح الشوكاني أنه يجوز في حق كل أحد، صُلِي عليه أم لا بشرط أن يكون المصلي في بلد آخر غير البلد الذي مات فيه الميت. ومقتضي ما سبق أن صلاة الغائب علي الشهيد لا تجوز ولا تشرع في قول أحد من المذاهب الأربعة، أما الحنفية والمالكية فلأنهم لا يرون مشروعية صلاة الغائب، يضاف إلي ذلك أن المالكية لا يرون مشروعية صلاة الجنازة علي الشهيد، وأما الشافعية فإنهم وإن أجازوا صلاة الغائب إلا أنهم يحرمون الصلاة علي الشهيد كما هو الحال عند الحنابلة في أصح الروايتين عندهم. شهيد الدنيا وشهيد الآخرة لكن الذين قتلوا في ثورة 25 يناير 2011 يسمون فقها شهداء الآخرة؛ ذلك أن الشهيد علي ثلاثة أقسام: الأول شهيد الدنيا والآخرة، والثاني شهيد الدنيا، والثالث شهيد الآخرة. فشهيد الدنيا والآخرة هو الذي يقتل في قتال مع الكفار، مقبلا غير مدبر ؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلي، دون غرض من أغراض الدنيا. ففي الحديث عن أبي موسي - رضي الله عنه - قال: {إن رجلا أتي النبي صلي الله عليه وسلم فقال مستفهما: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليري مكانه، فمن في سبيل الله ؟ قال عليه الصلاة والسلام: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله}. أما شهيد الدنيا: فهو من قتل في قتال مع الكفار وقد غل في الغنيمة، أو قاتل رياء، أو لغرض من أغراض الدنيا. وأما شهيد الآخرة: فهو المقتول ظلما من غير قتال، وكالميت بداء البطن، أو بالطاعون، أو بالغرق. والمقصود هنا أن الحنابلة الذين يمنعون صلاة الجنازة علي الشهيد في أصح الروايتين عندهم إنما يقصدون بذلك شهيد الدنيا والآخرة معا، وأما شهداء الآخرة فقط – كما هو حال شهداء الثورات والمظاهرات والمقتولين ظلما- فعندهم رواية قوية بصحة صلاة الجنازة عليهم، ومن ثم صحة ومشروعية صلاة الغائب. قال ابن قدامة في المغني فأما الصلاة علي أهل العدل، فيحتمل أن لا يصلي عليهم؛ لأننا شبهناهم بشهداء معركة المشركين في الغسل، فكذلك في الصلاة، ويحتمل أن يصلي عليهم؛ لأن عليا رضي الله عنه صلي عليهم. فأما من قتل ظلما، أو قتل دون ماله، أو دون نفسه وأهله، ففيه روايتان: إحداهما، يغسل. اختارها الخلال، وهو قول الحسن، ومذهب الشافعي، ومالك ؛ لأن رتبته دون رتبة الشهيد في المعترك، فأشبه المبطون؛ ولأن هذا لا يكثر القتل فيه، فلم يجز إلحاقه بشهداء المعترك. والثانية، لا يغسل، اختارها الخلال، وهو قول الحسن ولا يصلي عليه.انتهي. بقي أن يقال: إن صلاة الغائب علي شهداء الثورات والمظاهرات صلاة سياسية أكثر منها صلاة شرعية، فالمقصود بها تعزيز الاحتجاجات وإبرازها إعلاميا وسياسيا، ونقول هنا ما قاله الإمام أحمد في أحد جواباته عن الصلاة علي الشهيد: "يصلي، وأهل الحجاز لا يصلون عليه، وما تضره الصلاة، لا بأس به". والله أعلم