كم تعجبنى كلمة ذى النون المصرى رحمه الله، عندما ذكروا بين يديه مسألة «المحبة»، فقال: أمسكوا عن هذه المسألة؛ لا تسمعها النفوس فتدعيها! وصدق رحمه الله، فمحنة النفس والناس والعالم فى الأدعياء الذين يُحسنون الكلام والتنظير «الثلجى» الذى سرعان ما يذوب متلاشياً إذا سطعت عليه شمس الحقيقة! وعندما تتأمل فى بناء الأمم والدول والحضارات، تعلم أنها ما كانت لتُقام إلا على قاعدة «الصدق» الذى ينبض فى قلوب الذين آمنوا بالفكرة، وأقاموا حياتهم جسراً موصلاً إلى تحقيقها، فما كانت أوروبا لتنهض نهضتها إلا بأولئك الصادقين الذين عاينوا انحسار ممالكهم أمام ضوء الإسلام وحضارته، فاجتهدوا وصدقوا وحصّلوا العلم، وصبروا على ألم السعى وقسوته، حتى كانت أوروبا، وكانت حضارتها! ولماذا نذهب بعيداً وبالجوار هذا العدو الذى أقام دولته «المغتصبة» من الركام، بفضل المتبتلين فى محراب الصهيونية، من أمثال جولدامائير التى سخرت حياتها لهذا الحلم، حتى نبض بين يديها متوهجاً بالحياة؟! تقول مائير فى مذكراتها: «لم تكن الدولة الإسرائيلية قد أُنشئت بعد، ولم تكن هناك وزارة تُعنى بشئون المهاجرين الجدد، ولا حتى من يقوم على مساعدتنا لتعلم اللغة العبرية، أو إيجاد مكان للسكن.. لقد كان علينا الاعتماد على أنفسنا، ومجابهة أى طارئ بروح بطولية مسئولة.. كان الرواد الأوائل من حركة العمل الصهيونى هم المؤمنين الوحيدين الذين يستطيعون تحويل تلك المستنقعات أو السبخات إلى أرض مروية صالحة للزراعة، فقد كانوا على استعداد دائم للتضحية والعمل مهما كان الثمن مادياً أو معنوياً»! قام الكيان المغتصب على يد الذين كان لديهم «هذا الاستعداد الدائم للتضحية والعمل»، وهذا ما يفسر لك تخبط المشهد فى مصر، لغلبة التجارة السياسية، والدجل الذى «يُعطِيك من طَرف اللسان حلاوةً، ويروغ عنك كما يروغ الثعلب»! إن الأوطان لا تُبنى على «المراوغة» الكاذبة التى تحول مصر إلى «هدف» يتسارع الكثيرون إلى «صيده»، وليس إلى تحقيقه ورعايته وحفظه! ولا بأس أن يكون ذلك تحت ستار «الديمقراطية»، و«الحرية» وسائر «المبادئ» اللامعة، التى تنطفئ فى واقع صاحبها الذى لا يجد حرجاً فى استدعاء «الخارج» عند صياغة دستور «مصر»، ولا فى «استعدائه» عند الخصومة السياسية التى ينبغى أن تكون شأناً وطنياً محضاً. والسؤال الذى يشغلنى كثيراً بعيداً عن الخلاف الأيديولوجى: هل هؤلاء صادقون حقاً فى انتمائهم إلى الأفكار التى ينظرون لها، أم أن الأمر يتجاوز التنظير ويفارق المبادئ إذا تعلق ب«الأنا» التى ترى نفسها أصل الوجود، وما سواها كمّاً مهملاً لا وجود له إلا أن يكون تابعاً ذليلاً، ولو كان منتخباً شعبياً، وعندها يصدق قول بايرون: الديمقراطية هى أرستقراطية الأوغاد! وحيئنذٍ تتحول المعارضة من مفهوم النقد ومراقبة الخطأ، وتقويم المسار من أجل الوطن، إلى معارضةٍ لم تدع معاول الهدم فى بنيان الآخرين، وحرق مقارهم؛ لأنهم يعتبرون الخصم السياسى «عدواً»، والوطن لا يتسع للأعداء/.. «المصريين»! هل يكون الإنسان طوباوياً يعيش فى يوتوبيا الوهم عندما يطالب «الجميع» بأن يكونوا صادقين وإن اختلفوا، وأن يحفظوا مصالح مصر وإن تنازعوا سياسياً، وأن يبتعدوا عن لغة الدم لأنه جريمة؟! أم سأردد مع الدكتور النبيل معتز بالله عبدالفتاح: يا فرحة إسرائيل فينا؟!