ليلة باكية ودامية، عاشتها قرية المندرة بمحافظة أسيوط، حيث ظل الأهالى يبحثون عن أشلاء أطفالهم قرابة ساعتين، بعد أن لقوا مصرعهم فى حادث تصادم قطار الموت «أسيوطالقاهرة» بأتوبيس معهد النور الإسلامى، وأسفر عن مصرع 51 طفلا وأصيب 19 آخرون. هذه المشاهد لا تغيب عن ذاكرة أطفال وأهالى القرية، الذين يتحدثون عن الحادث وكأنهم فى كابوس، فيتحدثون عن القطار الذى اصطدم بأتوبيس الضحايا ودفعه قرابة 2 كيلومتر، حتى تحولت جثث الأطفال إلى أشلاء، وتحول الأتوبيس إلى «قطعة حديد». «الوطن» انتقلت إلى مكان الحادث فى قرية المندرة، مركز منفلوط بمحافظة أسيوط، 340 كيلومترا جنوبالقاهرة. الطريق إلى القرية ترابى، والمنازل تتكون من طابقين أو 3 طوابق على الأكثر، بينما أهالى القرية والقرى المجاورة يتحركون فى حذر شديد، حيث قطعوا الطريق وتحفظوا على قطار الموت، وطالبوا المسئولين بالقصاص من مرتكبى الحادث. الأطفال والأهالى يستقبلون رواد القرية من الإعلاميين والمسئولين والقرى المجاورة، بعبارات «ده مكان الحادثة.. هنا لقينا دراع عيل.. وهنا إطارات الأتوبيس.. ودى الأدوات المدرسية وكتب القتلى.. بص يا باشا الواقعة دى كلها استغرقت 4 دقائق وانتهت بتلك الكارثة». أهالى القرية يحملون الرئيس والوزارة المسئولية الكاملة عن قتل أطفالهم الأبرياء، قائلين «يعنى هو لو فيه نظام فى عمل هيئة السكة الحديد مش هنسمع كل يوم عن حوادث قطارات.. يعنى قطار الفيوم لم يمر عليه أسبوع ولم يتم التحقيق مع أى مسئول ولا حبس سوى قائد القطار وعامل التحويلة، والعمال الغلابة». يحكى عدد من الشهود حكايات الدم التى سالت على قضبان السكة الحديد.. وعن استيقاظ أهالى القرية على الحادث البشع.. وعن الأطفال المشوهة والأشلاء وأعضاء الضحايا التى عثر عليها أسفل عجلات القطار وداخل القطعة الحديد.. وعن طفل لم يتجاوز الثامنة من العمر وهروبه من مكان الأحداث عقب توقف القطار، وذهابه إلى حضن أحد جيرانه ويصرخ وسقط على الأرض فى حالة إغماء. المزارع على عبدالموجود، يصف الحادث بأنه بشع، قائلاً إنه كان أقرب شخص لمكان الحادث، لأن القطار توقف أمام مزرعته، وقال إنه عقب توقف القطار شاهد طفلين مشوهين وملتصقين بواجهة القطار، ورأى سائق القطار ينزل منه فقال له «مش حرام عليك تنشر لحم الناس بالشكل ده؟» فرد عليه السائق وقال له: أنا مقدرش أقف عند بلد بالكامل، وطلب منه السائق أن يساعده على الهرب. وأوضح عبدالموجود أنه لم تمر سوى دقيقة واحدة، وانطلق السائق على قدميه بسرعة يحاول الهرب من أهالى القرية، البالغ عددهم أكثر من 4 آلاف شخص، ومعظمهم يعملون كمزارعين، وشرح عبدالموجود تفاصيل الواقعة قائلا إنه توجه عقب صلاة الفجر إلى مزرعته، وأثناء عمله سمع صوتا مرتفعا.. وشاهد القطار يصدم أتوبيس الضحايا ويدفعه أمامه قرابة مترين ونصف المتر، فانطلق إلى سائق القطار ودار بينهما حديث انتهى بهروب السائق. توقف عبدالموجود عن الحديث عدة دقائق كان يبكى خلالها، ثم قال «والله أول ما القطار وقف أنا شفت طفلين على واجهة القطار بس مشوهين.. وبعدين لقيت راس طفل آخر تحت عجلة القطار.. وبعدين شفت إيد على صابع على رجل، وواحد ميت وفى إيده كراسة الواجب»، مضيفاً أنه فوجئ بأهالى القرية يتجمعون أمام الحادث، فانهار بعضهم، فيما طلب آخرون أجولة وأكياسا بلاستيكية لجمع أشلاء الأطفال فيها، موضحاً أنه عرف أن هؤلاء الأطفال من قريته بعد أن قرأ اسم أحد الضحايا على الكراسة وهو عبدالرحمن أحمد عبدالله، وهو ابن جاره، وتابع أنه هو وأفراد قريته والقرى المجاورة ظلوا يبحثون عن جثث أطفالهم وأشلاء ما تبقى منها قرابة ساعة ونصف، وعقب ذلك أبلغ أحد الأشخاص الشرطة التى حضرت ومعها سيارات الإسعاف، ونقلت الجثث إلى مستشفى الجامعة ومشرحة منفلوط، وعقب ذلك انطلق كل شخص يبحث عن أطفاله. وأوضح المزارع أن عددا من الجثث تم العثور عليها كاملة وبها إصابات فى الرأس والرقبة وكسور، والبعض الآخر عثر عليها أشلاء، وتوصلت أسرهم لهويتهم عن طريق الكارنيهات التى يحملونها، والبعض الآخر لم يتم التوصل إلى هويته، وأضاف أنه عقب ذلك حضرت النيابة العامة وأجرت معاينة تصويرية لمكان الأحداث وعاينت جثث الضحايا، وطلبت تحريات المباحث وصرحت بدفن الجثث، وعقب ذلك انطلق الأهالى إلى المشرحة وتسلموا جثث ذويهم ودفنوها، وتحولت القرية إلى سرادق عزاء. محمد.. طفل عمره 11 سنة، كان أحد الشهود على الحادث، حيث أنه صديق الطفل عبدالله، أحد الضحايا، يقول «عبدالله راح المعهد الأزهرى السنة دى علشان يموت فى الحادثة.. والله أنا شفت الكراسة بتاعته وهى عليها دم.. ده كان شاطر وبيحب يحفظ القرآن وحفظ فى الصيف 4 أجزاء»، ويتساءل الطفل: «يعنى عجبك اللى بيحصل ده والله أبوه مالوش غيره.. ده وحيد فى الصبيان بس عنده أخت عندها 3 سنين ربنا يخليها لأبوه». يعانى محمد من حالة ذهول مما حدث، ويشير بيده للأرض قائلا «ده بقى كان مكان جثة عبدالله صاحبى الله يرحمه.. أبوه خد الجثة وراح يدفنه». «والله حرام.. اللى بيحصل ده حرام.. يعنى مين اللى هيجيب حق الأطفال دول.. ما هى مش أول مرة الأتوبيس يعدى المزلقان ده.. طول عمره بيعدى ومكانتش حاجة بتحصل.. هو الواحد يعمل إيه فى الحكومة دى.. وفى الآخر هيشيلها موظف غلبان ويفضل الوضع زى ما هو من فساد المسئولين بالدولة».. كلمات حزينة صرخ بها أحمد محمود، موظف، أمام أكثر من 150 من أهالى القرية. يقول أحمد إنه كان ذاهباً لعمله، وسمع صوت تصادم شديد، ورأى أهالى القرية يتحركون بسرعة إلى مزلقان السكة الحديد، وأخبره أحدهم أن قطارا صدم أتوبيس المعهد الأزهرى، وأن أطفال القرية كلهم ماتوا، وعندما ذهب ليستطلع الأمر وجد أشلاء وجثثا، وصراخ وعويل وبكاء أطفال وعواجيز ونساء، ورجالاً يبحث كل منهم عن أولاده.