أكتب هذا المقال من بريطانيا والمصادر التى أشير إليها تحت يدى من صحف ومجلات وبرامج تلفازية تتحدث كثيراً وتحلل دون رقابة شديدة؛ لأن الجميع يلتزمون بالاستراتيجية العامة والسياسات العامة ولا يتجاوزون سقفها مهما قضوا فى المعارضة من مدد، فالأمل يحدوهم فى الوصول إلى الحكم والسلطة، والشعب هو الحكم الحقيقى فى هذا الأمر. الإعلام وأهل السياسة مشغولون هذه الأيام بإنجاح الاتفاق الكبير بين الأمريكانوإيران بخصوص البرنامج النووى الإيرانى. معظم الأطراف فى إيران سعيدة بالاتفاق إلا الحرس الجمهورى. أمريكا سعيدة جداً وإسرائيل كذلك، خصوصاً أنها لا تهتم ولا تعنيها كل الاتفاقيات التى تخص البرامج النووية وكأنها تعيش فى كوكب آخر غير الكوكب الذى تعيش عليه إيران أو العالم العربى. بعض دول العالم العربى، خاصة الخليج، غير سعيدة على الإطلاق بالاتفاق وتخشى القدرات الإيرانية، ولكنها لا تهتم بالبرنامج النووى الإسرائيلى ولا تخشاه ولا تزال تصدق أمريكا والمزاعم الأمريكية. وسط كل ذلك الانشغال العالمى تحدث رئيس الوزراء البريطانى، ديفيد كاميرون، فى بداية هذا الأسبوع عن خطة خمسية لمحاربة التطرّف، وطرح حزمة من الإجراءات الجديدة ضمن هذه الخطة. ذكرت ذلك الجارديان والتايمز والتليجراف والإندبندنت، وكل الصحف البريطانية. أولاً: منح الصلاحية لأولياء الأمور لمصادرة أو إفساد جوازات سفر الأبناء إذا خافوا أن يسافر الأبناء إلى سوريا. ثانياً: تمويل المجموعات التى ترغب فى الإسهام فى الإصلاح ونشر أفكار جديدة تواجه الأفكار الشاذة التى ينشرها أهل التطرّف. ثالثاً: منح سلطات جديدة (طبعاً قانونية) لمواجهة ودحض قيادات مجموعات التطرّف، التى تسعى فى نشر رسالة التطرّف والتشدد. رابعاً: منح صلاحيات جديدة إضافية للجهات المعنية بالبث والإعلام لمواجهة القنوات الأجنبية التى تنشر أو تتبنى رسالة الكراهية. خامساً: تشجيع الجامعات لرفض ودمغ خطاب المتطرفين الإسلاميين. سادساً: الحد من الإسكان الاجتماعى حيث يقطن ويعيش سوياً الناس من خلفية عرقية واحدة. سابعاً: دعم إنشاء مدارس جديدة مختلطة فى المناطق التى فيها مدارس ليس فيها اختلاط بين الجنسين. هذه بعض النقاط التى وردت فى أحاديث ديفيد كاميرون الأخيرة عن مواجهة العنف وثقافة الكراهية. سنختلف طبعاً حول هذه النقاط أو الإجراءات، كما اختلف حولها المجتمع البريطانى نفسه، خصوصاً المسلمين والجهات التى تتحدث باسمهم. أقول إن هذه النقاط السبع، خصوصاً النقطة الأولى التى تسمح بل تستحث الآباء على سحب أو تدمير جوازات سفر الأولاد إذا كانوا يخشون سفرهم إلى سوريا، هى تغيير فى السياسات العامة وفى الحريات بل هى تضحية بالحريات إذا كانت تؤثر فى الأمن القومى، لأننى أعتقد أن الذى تخشاه بريطانيا والغرب عموماً من سفر الشباب إلى سوريا والعراق وغيرهما من أماكن الصراع ليس هو الخوف على تلك البلاد من الصراع ولا الإرهاب، بل أن يطال الإرهاب بلاد الغرب أو يصل إلى إسرائيل، بدعوى الجهاد ضد الاحتلال. الحريات والقانون هما أجمل ما فى الغرب، ولكن الغرب هنا لا يصون تلك الحريات التى يقدسها، ولا تهمه حقوق الإنسان؛ لأنه يرى أنها هنا تعرّض الأمن القومى للخطر. فى الخطاب الذى ألقاه ديفيد كاميرون فى مدرسة من مدارس برمنجهام، ثانى أو ثالث مدينة فى بريطانيا، يوم الاثنين الماضى 20/7/2015، وضع الآباء والأمهات أمام المشكلة وإشراكهم فى علاج تطرف الأولاد قبل أن يصبح حقيقة. أدان «كاميرون» جرائم الشرف التى تقع بين الأيديولوجيات الشرقية، بما فيها أتباع الدين الإسلامى الذين يعيشون فى الغرب، وكذلك أدان الرجل الختان للبنات وهو من الأمور الفقهية المختلف فيها. كما أدان «كاميرون» الزواج التقليدى أو زواج الإجبار الذى قد لا ترضى به الزوجة أو الزوج كذلك. من أهم ما قاله «كاميرون» أن المعركة مع الإرهاب هى معركة أفكار، ومعظم الإجراءات والوسائل المقترحة هى خارج إطار الحل الأمنى، وإن كانت تصب فى صالح الأمن. إن بريطانيا تعانى من حوالى ألف شاب بريطانى سافروا إلى سوريا وقد عاد نصفهم إلى بريطانيا، هل لدى الغرب من العقل ما يجعلهم يقفون إلى جانب الدول التى تحارب الإرهاب، خصوصاً فى سيناء كما يعرف الجميع، أم أن المعايير هنا مختلفة؟ إن «كاميرون» يدرك أن هناك بعض المشكلات التى يعانى منها الشباب المسلم حتى الذين ولدوا فى الغرب ولا يعرفون لهم أى بلد آخر. ومن تلك المشكلات الشعور بالعزلة فى المجتمع البريطانى، ويعيشون وفق ثقافة مختلفة عن ثقافة المجتمع الغربى. الغرب كله يخشى من الإرهاب ولكنه يصنع أدوات الإرهاب ولا يجد غضاضة فى تصديرها إلى المجتمعات الأخرى. هل يدرك العرب الدروس العديدة التى تمر بها الأمة هذه الأيام؟ أتمنى ذلك ولكن ما كل ما يتمنى الإنسان يدركه وأحياناً تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، هذا فى بلاد العقل والحكمة، أما فى بلاد العرب فليس أحياناً بل غالباً، والله الموفق.