المصالحة ليست هى هدف العدالة الانتقالية الوحيد والمباشر كما يتبادر إلى أذهان كثيرين على تباين مواقعهم، ففى هذا تبسيط مخل بفعل تأثرنا شعبوياً بمقولة «الصلح خير وعفا الله عما سلف» وهى مقولة قد تبدو صحيحة وسلامية لكن البعض يوظفها فى غير موقعها، بل يذهب إلى إخضاعها لتحقيق ما يرمى إليه فى مناورة سياسية تخلو من البراءة. فالمصالحة ليست بين الفرقاء والكيانات السياسية المتخالفة والمتصارعة، لكنها بين كل هؤلاء والوطن، لذلك استعرضنا فى سطورنا فى مقال سابق الإطار التراتبى وفق دراسة مستفيضة ومدققة للدكتور المستشار عادل ماجد نائب رئيس محكمة النقض، الذى انتهى إلى وضع مشروع متكامل لقانون العدالة الانتقالية لكنه لم يتحول بعد إلى قانون لعل المانع خير. العدالة الانتقالية هى مجموعة الإجراءات والقواعد القانونية التى تتخذ لعلاج الاختلالات التى اجتاحت الوطن فى ظل الأنظمة السابقة التى اتسمت بالفاشية والاستبداد والفساد ورفع الغبن وجبر الضرر الذى لحق بالمجتمع وملاحقة من تسببوا فيه وتقديمهم اعتذاراً مناسباً وواضحاً وتعويض من أضيروا. ثم تأتى المصالحة لتتوج مسيرة العدالة فى مرحلة انتقالية، وفق ترتيبات وآليات وتوقيتات طرحها مشروع القانون. فى حالتنا المصرية نحتاج إلى إعادة الاعتبار لسيادة القانون، كمدخل لتحقيق العدالة، ويتطلب هذا أن نعيد الثقة بين الشارع وبين المؤسسات المنوط بها إعمال القانون والفصل فى النزاعات والقضايا والتنفيذ لما يصدر عن القضاء من أحكام، وهذه الثقة لن تتحقق بحزمة من الوعود أو إطلاق مجموعة من مواثيق الشرف، بل بخطوات جادة تنتهى إلى إعادة هيكلة هذه المؤسسات، القوانين والبشر، سواء ذات الصلة المباشرة بمنظومة العدالة: جهات التحقيق والقضاء والشرطة، بحزم وشفافية ووفق قواعد واضحة ومحددة لا لبس فيها، وسن حزمة من التشريعات تفعّل الرقابة والمتابعة فى كل مؤسسة وفق تقاليدها الصحيحة. وأيضاً المؤسسات التى تؤثر فى هذه المنظومة وتنقل عنها أو تحيل إليها: الإعلام بتنوعاته المسموع والمرئى والمقروء، وأجهزة الرقابة وعلى رأسها الجهاز المركزى للتنظيم والرقابة، وهيئة الرقابة الإدارية، وما شابه. حتى نوفر قاعدة بيانات تصل للناس بشكل حقيقى لا ينحرف إلى التهييج أو الابتزاز، فاللحظة لا تحتمل ما يترتب على ذلك. وغير بعيد تحتاج الآليات الممثلة للأثقال السياسية (الأحزاب) إلى وقفة جادة، تنقلها من حالة الغياب والانفصال عن الواقع إلى حالة العمل الفاعل، خاصة أن المشهد لم يفرز أحزاباً تجرؤ على القول إنها تستند إلى ظهير شعبى حقيقى، ربما بسبب أن بواكيرها جاءت بقرارات فوقية، وامتداداتها شكلتها تجمعات عائلية أشبه بشركات الأشخاص، وكثيرها ولد فى لحظة الثورة وكان الانفعال يسبق الرؤية، فلم نرَ أطروحات بديلة أو حلولاً واقعية للأزمات السياسية وكشف وهنها فشلها فى إدارة أزمة مرحلة ما قبل الانتخابات البرلمانية بينها وبين بعضها أو داخل الحزب الواحد. وغاب عن مجملها الشباب صاحب الحق الأصيل فى إدارة الحياة السياسية، ولهذا فعلى القوى السياسية أن تبادر بوضع قواعد جديدة وجادة لتنظيم الحياة الحزبية حتى لا نرتد مجدداً إلى نظام الحزب الواحد، وحتى لا نسلم الساحة للتكتلات الفاشية الراديكالية التى تجيد توظيف المتاح فى تثبيت أقدامها بما توفر لها من غطاء قانونى، تأسيساً على نصوص دستورية وتأويلات فقهية ملتبسة تحتاج إلى إعادة صياغة ليتحقق ما جاء بالدستور فى ديباجته «نحن الآن نكتب دستوراً يجسد حلم الأجيال بمجتمع مزدهر متلاحم، ودولة عادلة تحقق طموحات اليوم والغد للفرد والمجتمع، نحن الآن نكتب دستوراً يستكمل بناء دولة ديمقراطية حديثة، حكومتها مدنية» بالمعنى الذى عرفه العالم المتحضر، بعيداً عن مراوغات الأحزاب الدينية. وللطرح بقية