قديماً قالوا إن الشعوب تستحق حكامها.. وإن الفاسد لا يحكمه سوى فاسد.. والصالح لا يحكمه إلا صالح.. والواقع أن لغطاً كثيراً قد دار حول هذه المقولة بالتأييد أو الرفض.. ولم يزل الصراع جارياً حتى الآن.. كثيراً ما نتهم الحكام بالظلم والفساد.. لا أنكر أن هذا صحيح فى كثير من الأحيان.. ولكن أحداً لم ينظر للأمر بشكل معكوس يوماً ليقرر.. والواقع أن المتأمل فى التاريخ قد يدرك حقيقة مهمة.. أن الشعوب تستحق حكامها فى معظم الأحيان.. فالحاكم الفاسد لا يجرؤ على الفساد.. إلا إذا حصل على الضوء الأخضر من شعبه.. فيطغى ويتجبر.. يساعده فى ذلك من شعبه الراقصون فى بلاطه والمنتفعون من بقائه.. كم كان الإمام علىّ رضى الله عنه بليغاً حين رد على منتقديه خلال حكمه.. إن مَن قبلى كان يحكمون مَن هم مثلى.. وأنا أحكم مثلكم! ويُحكَى أن أحد ملوك القرون الوسطى كان يحكم شعباً حراً كريماً، وكان شعبه رغم طيبته لا يسكت على باطل أبداً، فإذا ظُلم أحدهم وقفوا وقفة رجل واحد حتى يُرَد الظلم عن أخيهم. أخذ الملك يسأل وزراءه عن الحل.. وكيف له أن يحكم هذا البلد كما يريد، فأشار عليه وزيره بحيلة شيطانية.. كان أنه نادى فى الناس أن الملك يريد من كل رب أسرة خمس بيضات من أى نوع.. فقام الناس بجمع البيض والذهاب به إلى قصر الحاكم.. وبعد يومين نادى المنادى أن يذهب كل رجل لأخذ ما أعطاه من البيض.. فاستجاب الناس وذهب كل منهم لأخذ ما أعطاه.. وهنا وقف الوزير والملك يتابعون الناس أثناء أخذ البيض.. ترى ما الذى وجدوه؟ وجدوا كل واحد تمتد يده ليأخذ البيضة الكبيرة!! والتى ربما لم يأتِ بها. هنا وقف الوزير ليعلن للملك أنه الآن فقط يستطيع أن يفعل بهم ما أراد.. فقد سرق كل منهم أخاه.. فلن يتكلم أحدهم إذا سرقهم أحد.. ربما كانت القصة السابقة أقرب للأساطير.. فلا إسناد لها سوى القصص القوطية فى شرق أوروبا.. ولكن دلالتها بالتأكيد عظيمة..! فلن يستطيع فساد أن ينخر شعباً لم يفسد من داخله.. سوف نغوص فى أعماق التاريخ الإسلامى خلال الأيام المقبلة.. لنرى كيف كان يحكم الصحابة والتابعون.. وكيف كان حال الرعية.. لنرى كيف كانوا.. رعية وحكاماً.. «1» برلمان الإسلام! بعد خمسة عشر عاماً من الهجرة وفى بدايات حكم سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه.. صعد عمر إلى المنبر ليخطب فى الناس وقال: أيها الناس.. اسمعوا وأطيعوا.. فقام سلمان الفارسى ورد عليه: لا سمع ولا طاعة اليوم لك يا عمر!.. فى ظروف أخرى وزمن آخر.. ربما كان أنصار عمر قد قاموا على سلمان الفارسى.. وربما كان عمر نفسه قد غضب عليه أو أمر بنفيه خارج البلاد.. فهو أمير المؤمنين.. ومعارضته بهذه الصورة قد لا تليق بخليفة رسول الله..! الطريف أن عمر رضى الله عنه لم يغضب، وإنما سأله فى هدوء راضٍ: ولِمَ؟ قال سلمان: حتى تبين لنا من أين لك هذا البُرد الذى ائتزرت به، وقد نالك بُرد واحد كبقية المسلمين، وأنت رجل طوال لا يكفيك بُرد واحد، فنادى عمر: يا عبدالله بن عمر: قال لبيك، يا أمير المؤمنين، قال: ناشدتك الله، هذا البُرد الذى ائتزرت به - أى لبسته- أهو بُردك؟ قال: نعم، والتفت إلى المسلمين فقال: إن أبى قد ناله بُرد واحد كما نال بقية المسلمين وهو رجل طوال لا يكفيه بُرد واحد، فأعطيته بُردى ليئتزر به. فقال سلمان: الآن مُر، نسمع ونطع. القصة شهيرة جداً حتى إن طلبة الصفوف الابتدائية قد يعرفونها.. ولكن الهدف منها ليس المعرفة.. فلنتأمل كيف شك سلمان الفارسى أن أمير المؤمنين قد استغل نفوذه وسلطته للحصول على ثوب إضافى لنفسه.. وكيف لم يجبن أن يعارضه جهراً فى ساحة المسجد.. فلنتأمل كيف أن عمر رضى الله عنه لم يغضب لهذا الاتهام.. ولم يتهم سلمان رضى الله عنه بأنه «طابور خامس» يريد أن يفتت جبهة المسلمين بالتشكيك فى أمير المؤمنين.. وإنما وضح للعامة حقيقة الأمر.. ولنرى أيضاً.. كيف أن سلمان رضى الله عنه لم تأخذه العزة بالإثم.. ولم يجادل أو يشكك فى حقيقة الأمر.. إنما أنهى الحوار بأن: الآن يمكنك أن تأمرنا.. فنسمع ونطيع!! لقد قام كل منهم بدوره كاملاً دون زيادة أو نقصان.. فلم تجبن المعارضة أن تعترض.. ولم يترفع الحاكم عن الإجابة.. لقد نفذ كلاهما استجواباً حقيقياً كالذى يحدث فى برلمان أكبر دولة ديمقراطية فى العالم.. دون أن يصر أحدهما على رأيه.. ودون أن يحدث هذا الاستجواب لغطاً فى ربوع الدولة الوليدة. فهكذا كانوا.. رعية وحكاماً! وللحديث بقية إن شاء الله!