احتل التعاقد مع شركة «سيمنز» الألمانية مساحة لا يستهان بها من زيارة السيد الرئيس إلى ألمانيا، بل إن هذا التعاقد الضخم «8 مليارات دولار» بدا وكأنه أحد مسببات إتمام الزيارة بعد زوبعة التصريحات المسيئة من بعض السياسيين الألمان، فقد ذكر هذا التعاون على قائمة أسباب الفريق الذى رجح ضرورة إتمامها دون الالتفات إلى ما قد يستهدف تعكير الصفو وفتح آفاق الشراكات المهمة، وبمقتضى هذا العقد تنفذ الشركة الألمانية مجموعة من محطات توليد الطاقة الكهربية بالإضافة إلى بعض الملحقات أهمها إنشاء مصنع على الأراضى المصرية يقوم بإنتاج مكونات محطات توليد الكهرباء من الرياح. الخطوة إضافة لمكاسبها التجارية والتنموية المطلوبة مصرياً، لها جانب آخر مهم من النجاح فى كون النظام المصرى قد بدأ يتعامل بالمفردات العصرية الحديثة لتشكيل علاقاته الدولية، العقد بضخامته وعدد سنوات تنفيذه هو باختصار يستحضر التكنولوجيا الألمانية للدخول بقوة فى صناعة ملف الطاقة المصرية، ويفتح المجال أمام الدولة الألمانية لأن تكون شراكة مع مصر فى نشاط مرشح للتوسع والتمدد، ففضلاً عن ارتباط هذا الملف بكل عناصر التنمية المختلفة مما يكسبه أهمية مضافة فله خاصية التنوع الواسع إذا أضفنا له توليد الطاقة من المصادر المتجددة كالشمسية والرياح والمخلفات بأنواعها، وتلك الأنواع الجديدة المستحدثة فى هذا المجال حققت فيها ألمانيا سبقاً وتطوراً كبيراً يضعها فى صدارة الدول التى امتلكت ناصيته، هذا الأفق المستقبلى لملف من هذا النوع هو المفتاح الاستراتيجى للشراكات والعلاقات الدبلوماسية ما بين الدول بمفهومها الأحدث. مصر دولة ثقيلة وفق أوزان الدبلوماسية العالمية ونقطة محورية فى إقليمها المتنوع عربياً وأفريقياً وشرق أوسطياً، لكن هذا الثقل لم يعبر عن نفسه حتى اللحظة فى مضمار النمو والتحديث والتأثير فى الناتج العالمى المتنوع، والمفردات الأولية لثورتين مصريتين خلال ثلاث سنوات كانت تعبر بوضوح أن العقل والرغبة الجمعية للشعب انتبهت إلى مساحة تراجع ماثلة للعيان، وأتبعتها فى العمل الثورى بأنها تريد وتستحق الأفضل وهى أحلام ورغبات مشروعة لشعب يقترب من حاجز ال100 مليون نسمة، وبافتتاح عهد جديد بعد هذا المخاض مع رئيس ونظام جديد يتصور أن تكون صناعة الأفضل وتقليل فجوة التراجع على رأس أهداف الدولة شعباً ونظاماً. حسناً فعل النظام المصرى الجديد بفتح هذا الأفق المصرى الروسى مبكراً حتى وإن كانت عناوينه عسكرية حتى الآن، هو عنوان مهم للغاية ومطلوب بشدة لكن روسيا تمتلك ميزة نوعية أخرى قد لا تقل أهمية عن التعاون العسكرى وهى تقنية إنشاء المفاعلات النووية، وإنشاء برنامج مصرى للاستخدام السلمى للطاقة النووية لا يجوز التأخر عن البدء فيه يوماً واحداً فهو أحد أهم مفاتيح النمو المعتمدة فى غالبية دول الصف الأول، ومصر تبدأ فيه اليوم والفجوة بينها وبين من سبقوها كبيرة وتحتاج إلى حشد سريع يماثل ما تم فى مشروع قناة السويس العملاق، أما الجانب الروسى فله تجربة ناجحة فى إيران فهو الذى أنشأ لها مشروعها النووى الكبير فى ظروف محاصرة دولية غير معتادة، وبدبلوماسية الدول الكبرى صاحبة النفوذ الدولى تمكنت روسيا أن تعبر بالمشروع الإيرانى كل محطات الخطر وتحت تهديد العواصف التى كانت تريد اقتلاعه. مثل هذه الأنواع من الشراكات الاستراتيجية تصدر به قرارات سيادية تحدد الدولة التى ستتولى هذا الملف، لذلك لم يكن مفهوماً خلال الشهور الماضية، أنه بعد أن تم الإعلان خلال زيارة الرئيس فلاديمير بوتين لمصر عن إسناد مشروع محطة الضبعة للجانب الروسى، وخرجت تصريحات مشجعة من جانب روسيا حول تقديم تسهيلات فى السداد وإدارة المفاعلات وأعقب ذلك زيارات تمت من جانب بعض التقنيين الروس للموقع، ثم ظهرت أخبار عن إسناد مشروع الضبعة لفرنسا وكأن عقد الإنشاء هو عقد تجارى يتم المفاضلة فيه ما بين العروض المقدمة واختيار أحدها، أتمنى ألا يكون الأمر بهذه الصورة كما يأمل الجميع بإعلان سرعة البدء فى هذا المشروع الذى سيحقق لمصر نقلة نوعية فى مجال إنتاج الطاقة الرخيصة التى تسهم بها فى مختلف ملفات التنمية المؤجلة. كل مشاريع النهضة الوطنية العملاقة فى أى من دول العالم وعلى مدار التاريخ القديم والحديث، بدأت بضربة بداية واحدة وهى الاستعانة بدول كبرى، إما بإرسال بعثات تعليمية إليها لنقل مفردات الحداثة وصناعة الكوادر البشرية المؤهلة لقيادة المشروع النهضوى، وإما إسناد مشروعات عملاقة إلى هذه الدول فى مجالات استراتيجية واسعة لتقوم من خلال تلك الشراكات بتحقيق الهدف المزدوج وهو بناء المشروع وبناء الإنسان.