■ كنت أجرى حواراً مع كاتب الألغاز الشهير محمود سالم قبل نحو أعوام ثلاثة، قال لى إنه يصحو كل يوم، يهبط الدرج، يحتسى مشروب البرتقال «الفريش» فى أناة، ثم ينتظر الموت، يتهيأ لاستقباله كصديق تأخر عن موعده، يقول إنه جرّب الدنيا بكل ما فيها، كتب كل ما يمكن كتابته، والآن عليه الاستعداد لمعرفة ما يوجد فى الموت، وما بعده. هل لقدوم الموت شعور؟ ■ ذات يوم، كان الكابوس يطبق علىّ، صبياً كنت، والحلم مشوّش فى ذهنى مع الحقيقة، رأيت الأسرة على رأسها أقمار بيضاء، ودون سابق إنذار صعد قمر واحد إلى أعلى، وانتهى الحلم. استيقظت لا أرغب فى حكيه، بعد أسبوع كانت وفاة الجد، الشخص الوحيد الذى ارتفع قمره إلى أعلى. ■ «حالتى مش كويسة بس بين أيد أمينة، وبقول للى ليه عندى فلوس يسامحنى، واللى ليا عنده فلوس بناتى مش أقل غلاوة من بناته، أنا عمرى ما طالبت بحق لنفسى»، عبدالرحمن الأبنودى قبل أيام من رحيله. ■ كنت أستمع إلى جوابات حراجى القط، للشعر مهابة حين يُلقى بشكل جيد، فى اللحظة التى قيل فيها بالمرسال «عارفه يا مرتى الراجل فى الغربة يشبه إيه؟ عود درة وحدانى فى غيط كمون». شعرت أن الأبنودى لو رغب فى توصيف حالته ورقدته على سرير المرض شاعراً بغربة العجز لما كان الوصف أدق من ذلك. «أنتم الناس أيها الشعراء»، كما قال أحمد شوقى. ■ لا يغيب الجدل حول الأبنودى عقب رحيله، اختلاف المواقف السياسية له فى الآونة الأخيرة أغضب قطاعاً عريضاً -وأنا منهم- منه لأنه من قال «إحنا ولاد الكلب الشعب».. «وتعيشى يا ضحكة المساجين»، كتبها إهداء لعلاء عبدالفتاح، و«هى البطولة تعيّش اسمك ولا البطولة إنّك تعيش؟». شعره وافقنا فى كل مراحلنا، لكن الاختلاف السياسى لا علاقة له بالموهبة، ولا يمكن أن يثير الخلاف كراهية بعد الموت. نجيب محفوظ لا يحب كثيرون مواقفه السياسية ورماديته فى تحديد الاتجاه. هل أثار الغضب؟ نعم. هل انتفت موهبته وفنى حب الناس له؟ لا.. وموهبة «عبرحمن» وحب الناس لكلماته كانتا بحجم الوطن، كان يكتب كأن الكتابة إكسير الحياة، لا يغيب عن ذهنه مشهد الثلاثى المقبل متشابك الأيدى من الصعيد: يحيى الطاهر عبدالله، أمل دنقل، وهو. الآن غيّب الموت ثلاثتهم، موت المبدع يصعب تعويضه. ■ الشعر لغة الناس، حديث البسطاء، بينما كان الاحتفال بين الناس بذكرى رحيل صلاح جاهين، يتناقلون رباعياته، يرددون أشعاره ورسوماته، يستعيدون فن سيد مكاوى فى ذكراه، لحق بهم الأبنودى فى يوم واحد. جاهين وبيرم والفاجومى ونجيب سرور وصلاح عبدالصبور وأمل دنقل كانت كلماتهم كاشفة، يقولون الكلمة كأنها رصاصة تصيب الهدف، لا تموت الكلمة، تخلد وإن رحل صاحبها، يقول الشاعر عبدالرحمن الشرقاوى فى مسرحيته البديعة «الحسين ثائراً - شهيداً»: «الكلمة نور/ودليل تتبعه الأمة/ عيسى ما كان سوى كلمة/ أضاء الدنيا بالكلمات وعلّمها للصيادين/ فساروا يهدون العالم/ الكلمة زلزلت الظالم/ الكلمة حصن الحرية/ إن الكلمة مسئولية/ إن الرجل هو كلمة/ شرف الله هو الكلمة».