سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
هنا دنيا "صابر حماد".. أول كفيف يحصل على الدكتوراه في الإعلام "ابن المنيا": ناس كتير قالوا لأبويا إني أقعد في البيت بعد فقد البصر.. لكن هو قالي هبيع عمري عشان تكمل
"هون عليك بحادثٍ يشجيك، فالأيام سائرة بنا"، ربما كانت تلك الكلمات التي قالها الشاعر العباسي الكفيف "أبو العلاء المعري"، هي لسان حال ذلك الطفل الذي جعل القدر من الصبر والحمد معنًا لاسمه منذ اللحظة الأولى في حياته، قضى أعوامًا من عمره يصول ويجول لعبًا ولهوًا، ترتفع عيناه لترى زرقة السماء وضياء الشمس ولمعة القمر، قبل أن يصطدم بمياه زرقاء تصيب حبيبتيه، فيعيش القادم من عمره مع إطلال ذكريات أشخاصٍ رافقوه وغابت عنه وجوههم، ولم يبق من الشمس سوى شعاع حرارتها الذي يلامس جسده فينخلع قلبه لفقدان نورها، فيلملم أشلاء نفسه ويكشر عن أنياب إرادته، لتبدأ مركبه رحلة السير في بحور العتمة العميقة، ويكون . أسرة "صابر حماد"، لم تستسلم لرايات اليأس التي واجهتهم إزاء ذلك الحادث الذي سحب نور عين ولدهما قبل أن يكمل عامه الثالث عشر، بل قررت أن ينزح الطفل من بلدته بمحافظة المنيا ليلتحق بمدرسة "طه حسين الثانوية" بالقاهرة، "أبويا كان مصمم إني أكمل طريقي وأكون حاجة كبيرة بعد ما بقيت كفيف، وعمري ما هنسى كلمته لما قالي إني هكمل تعليمي حتى لو هيبيع عمره عليا". الحلقة الأولى في مسلسل تحديات "صابر" كان عنوانها تلك الطريقة الجديدة التي يتحسسها بأصابعه تتيح له تعلم القراءة والكتابة، "ما أخدتش أكتر من شهرين عشان أتعلم البرايل وأعرف أقرا وأكتب زي زمايلي، وتفوقت على نفسي في الثانوية العامة وجبت مجموع 84% للشعبة الأدبية". "طبيب بشري"، ذلك كان اللقب الذي حلم به ذلك الشاب قبل أن يفقد بصره، "كان نفسي أشارك في الوعي الصحي واتخصص في علاج الأطفال أو أخفف آلام أي ست أثناء الوضع والحمل"، إلا أن الظروف الجديدة دفعته لفكرة أن يكون صوتًا معبرًا عن الناس ينقل همومهم ويشاركهم آلامهم وأفراحهم "مجموعي في الثانوية العامة ما خلانيش أدخل إعلام القاهرة، وعشان كده قررت أدخل كلية آداب قسم إعلام جامعة المنيا عشان أوصل صوت أهل بلدي للمسؤولين". مرحلة الجامعة لم تخل من الصعاب التي ذللها "صابر" الواحدة تلو الأخرى، الكتب المطبوعة بطريقة "برايل" عزت في كليتهن فكان على أذنه أن تحل محل العين وتكون وسيلته لحفظ المحاضرات عن ظهر قلب، "وأنا في الجامعة مكنتش بكتفي بالدراسة وبس، لكن شاركت في مجلة الكلية ودخلت مسابقات صحفية كتير، واتخرجت من الجامعة بتقدير عام جيد سنة 99". "إرادة المستقبل"، عنوان حمله مشروع تخرج ذلك الشاب الذي أخذ على عاتقه الاهتمام بأمثاله من المكفوفين، فحرر مجلة تحوي خطواتٍ يريدها المستقبل ليعلن ابتسامته لهم، "أنا تناولت أبرز قضايا المكفوفين في محافظات شمال الصعيد والمنيا وأسيوط وبني سويف، والتقيت بكل مديري مدارس المكفوفين عشان يردوا على المشكلات اللي رصدتها، وقررت أن المجلة تكون مطبوعة بالبرايل وبطريقة الكتابة العادية عشان كل الناس تقراها سواء مكفوفين أو مبصرين". "ماشي في طريق الشوك ماشي، لكن قلبي مطرح ما يمشي بيبدر الأحلام"، لم يدرٍ الشاعر سيد حجاب وهو يكتب تلك الكلمات في وصف عميد الأدب العربي، أن هناك شابًا سيأتي من زمنٍ آخر ليقتفي أثره، فها هو يعود إلى "قاهرة المعز" بعد الجامعة ليبدأ رحلة عمل ممزوجة بحلم من نوع آخر، "أول حاجة عملتها قدمت تمهيدي الماجستير في كلية الإعلام جامعة القاهرة سنة 2000، واشتغلت مراسل صحفي لجريدة سعودية وكتبت لهم حاجات في السياسة والثقافة والاقتصاد، وفضلت معاهم لسنة 2011". سنوات طويلة قضاها الشاب الحالم بين الأبحاث والدراسات دون كلل، يرافقه جهاز تسجيل صغير يستمع من خلاله إلى كبريات الكتب التي يسجلها له أصدقاؤه تطوعًا، حتى "أنا كنت بروح دور نشر كتير جدًا عشان يوفرو ليا الكتب اللي تساعدني في رسالتي، غير المتطوعين في جمعية رسالة اللي كانوا بيفضولي مساحات كبيرة من وقتهم عشان يساعدوني"، جاء عام 2005، ليعلن حصول "صابر حماد" على رسالة الماجستير في الإعلام من جامعة القاهرة. "لا تحسبن المجد تمرا أنت آكلهن لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر"، عقد آخر يطوق أن يكمل سلسلة الأحلام، الشاب يتقدم واثق الخطى ويضع أولى لبنات أملٍ لم يسبق لكفيف في الوطن العربي تحقيقه، "اتقدمت بالحصول على الدكتوراه من كلية الإعلام جامعة القاهرة سنة 2010، وكان عن دور الإعلام المسموع والعربي في التوعية بقضايا حقوق الإنسان لدى ذوي الإعاقة في المجتمع، وكنت لازم أعمل دراسات ميدانية مركزة وحالات أطبق عليها نتائج بحثي، وواجهت صعوبات كتير لكن كل نجاح وليه ثمنه". "شهر مايو"، كان كلمة سرٍ حقيقية في حياة "صابر"، في أوله ولد، وآخره حصل على شهادته الجامعية، ليأتي اليوم الخامس من ذلك الشهر حاملا له التاريخ، "أنا كنت رايح أناقش الرسالة وأنا شايل على كتافي عبء كل المعاقين في مصر، حاسس أن دعواتهم محوطاني وأملهم إني أعمل لهم حاجة جديدة ما اتعملتش قبل كده". "الرئيس بيحييك وبيشد على أيدك وبيتمنالك مزيد من التوفيق"، كلمات كاد قلب "صابر" أن يخرج من صدره حينما سمعها، فالمتحدث هو مندوب رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسي، الذي حضر لمآذرته أثناء مناقشة رسالته، "في اللحظة ده اتأكدت إن الريس حاسس بينا وفاكرنا وعارف آلامنا وأوجاعنا، وإنه بيدعم أي حد يساهم في البناء". 3 ساعات ونصف كاملة يحبس فيها الجميع أنفاسه، كبار الأساتذة يحاصرونه بأعقد أسئلتهم فيروغ هو يمينًا ويسارًا حتى يجد لنفسه مخرجًا، حتى جاءت "لحظة العمر" التي يتم الإعلان فيها عن منح "صابر حماد" درجة الدكتوراه من كلية الإعلام جامعة القاهرة، كأول كفيف في العالم العربي يحصل من الكلية على تلك الدرجة، "أول حاجة كان نفسي أعملها لما سمعت إني أخدت الدكتوراه إني أسجد على الأرض، لكن خفت إنهم يفتكروا إني أغمى عليا من الفرحة". أمل وحيد يبقى للدكتور صابر حماد، صاحب ال39 عامًا، يتمثل في صدور قرار من أي جهة بتعيينه أستاذًا بكلية الآداب بجامعة المنيا، خاصة بعد أن كرمته الجامعة، "أنا نفسي ده يحصل عشان أقدر أفيد الناس بعلمي اللي اكتسبته على مدار كل السنين اللي فاتت دي واللي عملته ده كله ما يروحش هدر، وأكون شخص مؤثر في عملية بنا بلدنا اللي كلنا نفسنا نشارك فيها".