ظل ملف الاقتصاد غير الرسمى، الذى أطلق عليه مجازاً «الاقتصاد السرى»، سنوات عدة واحداً من الملفات المهملة داخل الأروقة الحكومية ودوائر صناعة القرار الاقتصادى، وربما كان الإهمال أو الإخفاق الحكومى سبباً فى تكدس أوراق هذا الملف، حتى أصبح مشكلة معقدة أسهمت بدورها فى الانفجار الكبير فى 25 يناير. وعلى الرغم من تصريحات حكومات ما بعد 30 يونيو بأن هذا الملف تحديداً على رأس أولوياتها، إلا أن شيئاً من تلك التصريحات لم يجد له طريقاً على أرض الواقع، محمد البهى رئيس لجنة الضرائب باتحاد الصناعات وأحد المسئولين عن ملف الاقتصاد غير الرسمى بالاتحاد، كشف فى حوار ل«الوطن» عن ازدياد نسبة وقيمة «الاقتصاد السرى» فى مصر بعد 25 يناير، كما اعتبر أن الدولة فشلت حتى الآن فى مواجهة وحل ألغاز هذا الملف رغم وجود دراسات تفصيلية تتضمن حلول المشكلة، وإلى نص الحوار. ■ أجريت دراسة عن الاقتصاد غير الرسمى قبل عام ونصف العام تقريباً ما مصير تلك الدراسة؟ - قمنا بتحديثها وأعدنا إرسالها إلى وزير المالية مرة أخرى بناء على طلبه قبل أسبوعين. ■ بعد 30 يونيو أعلنت الحكومة عن خطة لضم الاقتصاد غير الرسمى، هل تعتقد أن شيئاً من هذا تحقق؟ - للأسف، لم يتحقق شىء، بل على العكس، ما نراه يومياً يؤكد تنامى نفوذ وقوة الاقتصاد غير الرسمى، والمشكلة لدينا فى أن الحكومة نفسها هى التى روجت لفكرة أن الاقتصاد غير الرسمى هو «اللى شايل البلد»، وهذا كلام غير صحيح، ويشجع المتهربين والعاملين خارج الإطار الرسمى على مزيد من النمو. ■ هل ترى أن هناك فارقاً بين الاقتصاد غير الرسمى قبل وبعد 25 يناير؟ - الاقتصاد غير الرسمى ارتفع بنسبة تتجاوز 20%، نحن نتحدث عن اقتصاد كان يمثل 40% من المنظومة ككل، أصبح الآن يمثل ما لا يقل عن 60% من الاقتصاد المصرى، وهذا رقم ضخم، الدولة لم تتمكن من مواجهة تلك المنظومة حتى الآن. ■ حدثنا بشكل تفصيلى عن الدراسة التى أعددتها بشأن تقنين الاقتصاد السرى؟ - نحن لدينا دولة تبذل جهوداً للبحث عن موارد لتمويل احتياجاتها لتمويل متطلبات زيادة الأجور، وزيادة الإنفاق على الخدمات وسد عجز الموازنة، والحل الذى يتبادر للأذهان يكمن فى وسيلتين؛ الأولى الاقتراض الداخلى أو الخارجى، والثانية زيادة الضرائب أو فرض ضرائب جديدة، وهذا أمر ممكن ولكنه يفتح الباب للتساؤلات عن كيفية السداد فى حالة الاقتراض مع قلة الموارد وتنامى زيادة العجز فى الموازنة العامة للدولة، وإذا ما قررنا زيادة الضرائب فهناك علاقة طردية بين المبالغة فى سعر الضريبة وزيادة الحصيلة، وبالتالى من الضرورى البحث عن وسائل غير تقليدية لتدبير الموارد دون تحميل المواطن أعباء إضافية، ويتمثل ذلك فى تحصيل مستحقات الدولة من السوق الموازية والتى تعمل بصورة غير رسمية وبعضها يرتدى ثوب الشرعية، وأغلبه لا يلتزم بسداد أى رسوم أو ضرائب مستحقة للخزانة العامة للدولة، ولذا فإن مجرد إخضاعها للقواعد والقوانين سيؤدى حتماً إلى مضاعفة الرسوم والضرائب المستحقة للدولة، علماً بأنه لا يوجد بالأسواق سعران لسلعة واحدة، ويعنى ذلك أن جميع السلع والخدمات محملة بالضريبة، إذ يسددها القطاع الملتزم وتحصلها السوق الموازية لنفسها دون وجه حق. ■ هل هناك قيمة معينة لحجم هذا الاقتصاد؟ - قيمة الضرائب الضائعة على الدولة طبقاً لنسب التحصيل الحالية 15٪ حوالى 330 مليار جنيه، حجم هذه السوق يمثل رقماً هائلاً، فإذا وضعنا فى اعتبارنا أن نسب التحصيل العالمية للضرائب من 25% إلى 27٪ تصبح الحصيلة الضائعة على الخزانة أكثر من 550 مليار جنيه أى أنه إذا تم تحديث الإدارة الضريبية والاهتمام بالعنصر البشرى وتحسين أحوالهم المعيشية مع تأهيلهم وتدريبهم على النظم الحديثة، وإذا طبقنا الدراسة بإخضاع المتعاملين بالسوق الموازية للقانون، فسوف تقترب الحصيلة الضريبية من تريليون جنيه سنوياً، مما يغنينا عن الاقتراض الداخلى أو الخارجى ويقلب عجز الموازنة إلى فائض. ■ وماذا عن مصانع «بير السلم» كم تمثل من المنظومة؟ - من أهم مكونات السوق الموازية مصانع بئر السلم، فعدد المسجلين بالسجل التجارى تجاوز 90 ألفاً، بينما من حصل على عضوية اتحاد الصناعات بلغ 43 ألفاً فقط، أى أن هناك حوالى 47 ألفاً لم يستخرجوا سجلاً صناعياً لمباشرة عملهم حيث اشترط القانون ضرورة حصولهم على عضوية اتحاد الصناعات ليتمكنوا من استخراج السجل الصناعى، وألزم القانون كل من بلغ رأس ماله خمسة آلاف جنيه بالاشتراك فى اتحاد الصناعات. معنى ذلك أن هناك الآلاف يحصلون على غطاء شرعى لمزاولة عملهم ثم يتوقفون عن استكمال باقى الموافقات. ■ من المسئول عن ذلك الوضع تحديداً؟ - من الإنصاف أن نؤكد أن أغلب هؤلاء العاملين فى هذه السوق أجبروا على هذا الوضع نتيجة صعوبة الحصول على التراخيص، وتعدد الجهات المانحة وتعارض القرارات فيما بينها، كذلك لا بد أن نتحدث عن انتشار الأسواق العشوائية فى أنحاء الجمهورية، إذ زاد عددها على 1200 سوق وكلها تقريباً تتعامل بالأموال السائلة، بجانب تفشى ظاهرة الباعة الجائلين؛ حيث بلغ عدد العاملين فى هذا القطاع ثمانية ملايين مواطن القليل منهم يعمل بشكل دائم، والغالبية العظمى يعملون بعض الوقت من الطلبة والموظفين وربات البيوت والأطفال والبعض يتخذها غطاء للتسول، وهؤلاء هم الأداة الحقيقية فى يد أباطرة السوق من المهربين وأصحاب مصانع بئر السلم، ونتيجة تفشى تلك الظاهرة أصبحت أغلب العقارات داخل القاهرة والمدن الكبرى تستخدم الوحدات حتى الدور الثالث كمخازن لتلك الأنشطة لقربها من الباعة، مما أدى لارتفاع أسعار وإيجار تلك الوحدات وعدم توفر وحدات سكنية، كذلك تكدس العاصمة بسيارات النقل مختلفة الأحجام بالإضافة للتلوث الناتج عنها. ■ وماذا عن قطاع المهن الحرة؟ - بالطبع لا يمكن إغفال قطاع المهن الحرة وعدم التزامه بسداد الضرائب الواجبة، قطاع المقاولات أيضاً نما بشكل عشوائى مع المد العمرانى وانتشار البناء بدون الحصول على تراخيص، ولابد من العلم بأن أكبر مكونات الاقتصاد الموازى هو سوق العقارات، وأعتقد أن دراسة الخبير الاقتصادى العالمى هرناندو دى سوتو تحدثت عن هذا القطاع بالتفصيل، إذ كشفت عن أنه يوجد فى مصر أكثر من 25 مليون عقار، المسجل منها 8٪ فقط، وتبلغ القيمة السوقية لتلك العقارات 295 مليار دولار، أى ما يعادل 2.4 تريليون جنيه، إضافة لمخالفات المبانى سواء التوسع الأفقى أو الرأسى على المبانى القائمة أو البناء على الأراضى الزراعية. ■ هل تعتقد أن الدولة جادة بالفعل فى تقنين أوضاع «الاقتصاد السرى» فى مصر؟ - جميعنا يعلم المشكلة، والحلول، والآليات، لكن فى رأيى أعتقد أن الأمر مرتبط بشكل كبير بالمحليات وشبكة العلاقات الممتدة داخل المحليات مع «أباطرة الاقتصاد السرى»، أتصور أن الدولة العميقة وراء استمرار الاقتصاد السرى، لعدة أسباب منطقية، أولها ارتباط تلك الشبكة بمصالح كبيرة مع العاملين فى الاقتصاد السرى، وحصولهم على مزايا مالية ضخمة نتيجة استمرار الوضع الحالى على ما هو عليه. السوق الموازية السوق الموازية تعبير عن كيان اقتصادى ضخم ينتشر فى كل أنحاء الوطن، ويضم ملايين العاملين فى قطاعات الصناعة والتجارة والخدمات وله قواعده وأعرافه الخاصة، أهمها أن التعامل يكون غالباً بدون مستندات أو فواتير ضريبية، وتالياً فإن العاملين بهذا القطاع وإن كانوا موجودين بالفعل على الأرض، إلا أنهم غير ملتزمين بالنظم والقوانين ولا يخضعون للأجهزة الرقابية المختلفة التى تراقب وتضبط أداء الاقتصاد الرسمى.