على مدى العصور الفائتة، كانت السدود الإثيوبية تمثل حلماً إثيوبياً للتحكم فى مياه النيل الأزرق، وكان ملوك إثيوبيا يهددون ملوك مصر بإقامة السدود وقطع المياه عنهم. وفى بداية عام 1958 ومع إعلان مصر عن مشروع السد العالى، أرسلت الولاياتالمتحدةالأمريكية بعثة كبيرة من مكتب استصلاح الأراضى الأمريكى لتقيم فى إثيوبيا ست سنوات أعدت خلالها مخططاً للسدود على النيل الأزرق، وتم نشر تفاصيله عام 1964. والمخطط يشمل أربعة سدود كبرى على النيل الأزرق، وهى كارادوبى، وبيكوابو، ومندايا، والحدود، وذلك بإجمالى سعة تخزينية 70 مليار متر مكعب وقدرة كهرومائية 5500 ميجاوات. وتم تحديث هذا المخطط فى الثمانينات والتسعينات من القرن الماضى بواسطة عدة مكاتب استشارية أوروبية لتتضاعف سعة السدود الكبرى إلى حوالى 140 مليار متر مكعب، وتزداد القدرة الكهرومائية الإجمالية إلى حوالى 8000 ميجاوات. وبعد أسابيع قليلة من قيام ثورة يناير المصرية ومع السيولة الشديدة التى شهدتها البلاد حينذاك، حانت لإثيوبيا اللحظة التاريخية لتحويل مخطط السدود إلى حقيقة واقعة، وتحديداً فى الثانى من أبريل 2011، قامت إثيوبيا بوضع حجر أساس سد النهضة (الحدود سابقاً) بعد زيادة سعة السد من 14.5 إلى 74 مليار متر مكعب. وهذه السعة الهائلة للسد لها تداعياتها السلبية على مصر، كنتيجة مباشرة لحجز كميات مياه هائلة أمامه بدلاً من ذهابها إلى مصر وتخزينها فى بحيرة السد العالى. وملء سد النهضة خلال خمس أو سبع سنوات سيؤدى إلى استنفاد كامل أو معظم مخزون مياه السد العالى. وإذا تصادفت سنوات الملء مع سنوات جفاف فقد يتم استنفاد مخزون السد العالى قبل استكمال ملء سد النهضة. وبفرض أنّ المنطقة لن تتعرض لفترة جفاف أثناء ملء سد النهضة، فإنها سوف تأتى بعد فترة الملء والسد العالى فارغ أو شبه فارغ من المياه، مما قد يعرض مصر لقحط شديد. وسوف يتكرر هذا السيناريو كلما جاءت فترة جفاف تستنزف مخزون سد النهضة ومخزون السد العالى معاً. ومصر وضعها المائى هش وأى نقص فى إيراد النهر سيؤدى إلى بوار أراضٍ زراعية وانخفاض كهرباء السد العالى وكهرباء القناطر الرئيسية، وانخفاض منسوب المياه الجوفية، وزيادة فى تلوث البحيرات الشمالية، وتوقف العديد من محطات الشرب والمصانع الواقعة على نهر النيل. وفى نهاية عام 2011 اتفقت كل من مصر والسودان مع إثيوبيا على اتخاذ الحوار كوسيلة لحل أزمة سد النهضة، مع تشكيل لجنة دولية لتقييم الدراسات الهيدرولوجية والبيئية والإنشائية المتوفرة للسد. وبدأت اللجنة اجتماعاتها فى يونيو 2012، وأصدرت تقريرها النهائى فى نهاية مايو 2013، والذى نص على أنّ الدراسات المتوفرة للسد تعتبر مبدأية ويجب إعادتها حسب المعايير الدولية. وتفاوضت الدول الثلاث حول آلية لاستكمال هذه الدراسات حتى أغسطس 2014، حيث تم الاتفاق على استكمال دراسات السد عن طريق مكتب استشارى دولى، وعلى الانتهاء من الدراسات والتوافق حول نتائجها خلال فترة لا تتجاوز ستة شهور. وانقضت الفترة المحددة بدون تقدم يذكر، فاجتمع وزراء الدول الثلاث مرة أخرى فى فبراير الماضى، وتم تعديل الاتفاق لمد فترة الدراسة لمدة عام كامل. ثمّ جاء توقيع رؤساء مصر وإثيوبيا والسودان على إعلان مبادئ فى 23 مارس الماضى، بهدف بناء الثقة بين الأطراف وتذليل العقبات أمام مسار المباحثات الفنية. واختلفت الآراء حول الإعلان ما بين مؤيد ورافض، وأنا أراه غير متوازن ويميل لصالح الجانب الإثيوبى. إنّ الإعلان يشمل إقرار مصر والسودان، لأول مرة فى تاريخ ملف حوض النيل، بمبدأ الاستخدام العادل والمنصف للمياه بدون التطرق إلى الحقوق المائية لدولتى المصب وكان ذلك طلباً دائماً لدول المنبع ترفضه مصر والسودان. والإعلان لم يتطرق إلى مبدأ الإخطار المسبق عن السدود الإثيوبية المستقبلية، ولم يتطرق لوقف بناء السد حتى انتهاء الدراسات، ولم يتطرق لسعة وأبعاد السد محل الخلاف بالرغم من أنّ السعة الضخمة للسد تمثل مشكلته الحقيقية وليست سنوات التخزين أو التشغيل. وقد يكون سبب موافقة مصر على الإعلان هو ما تواجهه حالياً من تحديات كبيرة على الصعيدين الخارجى والداخلى، وعدم المخاطرة بفتح بؤرة صراع جديدة قد تهدد الاستقرار النسبى لحدودنا الجنوبية. والجزء المضىء فى رأيى فى هذا الإعلان، هو أنّه ليس ملزماً لأى طرف، لأنّه لا يشمل آلية لتحديد الاستخدامات العادلة والمنصفة لاستخدامات المياه والضرورية لتقييم الأضرار المائية على مصر والسودان، ولا يشمل أيضاً آلية لإلزام الدول بما جاء فيه من بنود. وفى نهاية المحاضرة قمت بعرض خارطة طريق لحل هذا الخلاف التاريخى بين مصر وإثيوبيا رأيت أنّها متوازنة، وتضمن الاستقرار والسلام والتنمية فى المنطقة، وسهلة التطبيق إذا صدقت النوايا وكانت هناك رغبة حقيقية للحل وليس لخلق الأزمات. وتتكون الخارطة من مرحلتين على النحو التالى: 1. المرحلة الأولى تشمل تفاوضاً مباشراً ما بين مصر وإثيوبيا للتوصل إلى سعة أقل للسد، أو بناء السد على مرحلتين زمنيتين أو أكثر، تفصل بينهما فترة زمنية يتم الاتفاق عليها. أى يبنى السد حتى ارتفاع 120 متراً مثلاً فى المرحلة الأولى، ثمّ بعد عشر سنوات مثلاً يتم تعليته حتى المنسوب الأقصى 145 متراً. وأثناء هذه الفترة الزمنية، يتم فى المرحلة الثانية من الخارطة الاتفاق على كيفية تعويض النقص الناتج فى تدفقات النهر من هذا السد والسدود الأخرى المستقبلية. 2. والمرحلة الثانية تشمل تعاون دول حوض النيل الشرقى بما فيها جنوب السودان وكذلك إريتريا إذا وافقت على المشاركة، للاتفاق حول تنمية النهر وحسن استغلاله من خلال الخطوات التالية: ■ إحياء مكتب تعاون النيل الشرقى (الإنترو) وضم جنوب السودان، وإعداد لائحة عامة للتعاون المائى لدول الحوض. ■ قيام الإنترو بإعداد دراسات تفصيلية لمشاريع استقطاب فواقد النهر فى مناطق السدود، وبحر الغزال، ومستنقعات ماشار، ونهر البارو أوكوبو فى إطار تنموى يشمل الزراعة وإمدادات المياه ومراعى وشرب وطرق وملاحة وكهرباء، لتكون هذه المشاريع محاور لتنمية جنوب السودان واستقراره. ■ قيام الإنترو بجذب الاستثمارات والمنح الدولية والإقليمية لتنفيذ هذه المشاريع. ■ قيام الإنترو بدراسة الاحتياجات المائية الحالية والمستقبلية لدول الحوض للاسترشاد بها فى توزيع العائد المائى لمشاريع الاستقطاب، ودراسة الربط الكهربائى بين دول الحوض. وانتهت المحاضرة، وتوالت أسئلة الحضور.