هناك حالة من الاستقطاب الحاد بين رواد شبكات التواصل -الذى لم يعد اجتماعياً بأى مقياس- حيث أصبحت الشتائم والسخائم والبذاءات هى الوسائل المعتمدة لدى معظم هؤلاء الرواد. لم تعد المسألة تبادل وجهات نظر، أو اختلافاً فى الأفكار والآراء، وإنما حرب مستعرة يتبادل فيها الجميع قذائف مدفعية وصواريخ تنال من أشخاصهم وإخلاصهم ووطنيتهم، مع اتهامات بالخيانة والعمالة... إلخ. صحيح أن رواد شبكات التواصل ليسوا هم المجتمع، ولا هم يمثلونه، لكنهم جزء منه.. مجرد عينة، لكنها عينة رديئة، وللأسف تأخذ اهتمام الكثيرين. والحقيقة أنه ليس المجال الوحيد الذى يعانى من تجاوزات، فلدينا مجالات أخرى، وإن كانت بعلل أو أمراض مختلفة، كمجال الكتّاب والصحفيين.. هل نقول إننا فقدنا كل صلة بالموضوعية والإنصاف، فضلاً عن الأخلاق؟! ليكن لك رأيك وانحيازك لفكرة ما، لكن ما الداعى لأن تلغ فى أعراض الآخرين، أو أن تنال من وطنيتهم، أو كرامتهم، اللهم إلا إذا كنت تشعر بأن هذا يضيف إليك مكانة أو تقديراً، وهذا لعمرى هو المرض بعينه. أعلم أن هناك أشخاصاً يتغذون على الجيف، ويعيشون على فضائح الآخرين.. هم كالذباب يأتى على أقذر ما يجده (!). فى هذا الجو الفاسد يسعى بعض الكتاب المغمورين إلى كسب شهرة ما على حساب المهنية والاحترافية ومنظومة القيم الأخلاقية والإنسانية. أصبح لدينا الآن أهداف محددة لمن يريد أن يحقق هذه الشهرة، وهى أن يشن هجوماً كاسحاً على الرئيس أو على مؤسسة الأزهر، أصبحت المسألة «هوجة» يتنافس فيها أصحاب الغرض، وما أكثرهم. بالطبع يمثل الهجوم على الإخوان هدفاً ثابتاً، لكنه يأتى فى المرتبة الثالثة. وما على الكاتب إلا أن يوجه بوصلته نحو الهدف المطلوب، ثم ينبرى مشرعاً قلمه وعباراته، وبقدر ما يكون الكاتب حاداً فى هجومه بقدر ما ينال من التقريظ والمديح، وبالتالى تحقيق الشهرة المطلوبة. بعض الكتّاب كانوا يهاجمون الرئيس السيسى، لكن فى شخص إبراهيم محلب. هى عادة قديمة كان يجرى العمل بها فى عهود الاستبداد، على اعتبار أن المساس أو الاقتراب من رئيس الدولة ربما يعرضهم لمؤاخذة أو مساءلة من قبَل الفراعين الصغار. نعم أداء محلب ووزرائه يغرى بالهجوم عليهم، فهو دون المستوى المأمول بكثير، على الرغم من الجهود المضنية التى يبذلونها، لكنها فى غير مكانها. تشعر أنهم فى واد والواقع البائس والمؤلم فى واد آخر. بيد أنه فى الآونة الأخيرة، بدأ الهجوم يتحول إلى الرئيس مباشرة. هل أصاب الكتّاب ملل، أو زهق، أو فقدان فى الأمل، فاضطروا إلى رفع «برقع» الخوف وخوض المعركة بكل سفور، والتوجه بالسهام مباشرة إلى شخص الرئيس، من منطلق أنه المسئول عن كل ما يجرى، وليحدث بعد ذلك ما يحدث؟ لقد كان هناك إعجاب وانبهار.. الآن، تبدد هذا وذاك. هل هذا بسبب قصور حقيقى فى أداء الرجل، وأنه أقل مما كانوا يأملون، أم أن البعض كان يطمع فى شىء من القرب أو الرضا، فلما لم يتحقق شىء من ذلك، لم يعد هناك مفر من الهجوم؟ بالنسبة لعالم الصحفيين، لا يجد الإنسان صعوبة فى أن يدرك أن ثمة خللاً يحتاج حلاً. أزعم أن لدىّ خبرة طويلة مع الصحافة والصحفيين، كان منهم أناس لهم قدرهم ومكانتهم، وآخرون غير ذلك، الأمر الذى جعلنى فى السنوات الأخيرة عازفاً تماماً عن الإدلاء بأى تصريحات بشكل مباشر أو عبر الهاتف، مكتفياً بالمقالات أو بالظهور «النادر» فى الفضائيات، فهذه من الصعب تحويرها.. بعض الصحفيين يفهمون جيداً ما تقوله لهم، لكنهم يكتبون أشياء مختلفة، ربما تكون مناقضة أو عكس ما أدليت به، غير أنها تتسق مع ما يريدون.. البعض الآخر لا يفهمون ما قلت، ربما لأن لديهم قصوراً فى الفهم، أو لأنك لم تستطع أن تعبّر عما كنت تريده بشكل واضح وسهل وبسيط. أحياناً يقدم الصحفى نفسه على أنه تابع لصحيفة معروفة حتى تهتم به، ثم تكتشف أنه يعمل فى صحيفة مغمورة لم يسمع بها أحد، أو صحيفة تكره أن يُنشر لك فيها أى شىء. لكن الإنسان لا يتعلم ولا يتعظ ولا يأخذ حذره. ورغم مرارة التجربة، أحياناً نادرة أستجيب للصحفى تحت الإلحاح الشديد، فأدلى بالتصريح، كى يتكرر الخطأ.. ويتكرر الندم.. إنه الضعف البشرى الذى يلازمنا طوال حياتنا حتى نوارى الثرى. عموماً، نحن فى زمن عجيب وغريب، ابتُلينا فيه بنوعيات من البشر يصعب وصفها.. فمن صحفى مزور يسعى لجذب انتباه رئيسه وكسب رضاه من خلال «خبطة» صحفية غير مسبوقة سوف تهز الرأى العام (!) وتغير من رؤيته وتصوره لقضية أو مشكلة ما، إلى صحفى قدراته متواضعة وفهمه محدود فيحاول أن يسد الثغرة بكلام ما أنزل الله به من سلطان، وهكذا.. المهنية والاحترافية -كأى مهنة أو حرفة فى مصر- لم يعد لهما نصيب، وللأسف، لا يوجد من يحاول أن يكون مهنياً أو محترفاً بالقدر الذى ينال الاحترام والتقدير.. ومن هنا يفقد الكاتب والصحيفة والصحفى مصداقيتهم.. الأعجب والأغرب أن المسألة لا تتصل فقط بهذه النوعية من الكتاب والصحفيين، لكنها أيضاً -وبدرجة كبيرة- مرتبطة بالذوق العام للجماهير. لم يعد أحد -إلا من عصم ربى- يهتم بالموضوعية والجدية فى التحقيقات أو البحوث أو المقالات.. ونظرة إلى إقبال الجماهير على القضايا الهابطة والأخبار الساقطة، وتلقفها للشائعات وترديدها وتسويقها والترويج لها، مع إحساس بالمتعة والبهجة، يعطيك دليلاً واضحاً على مدى فساد هذا الذوق. ومن نافلة القول التذكير بأن الصحف الحكومية تغرد خارج السرب.. لا بريق ولا جاذبية، ولا أظن أن هناك من يقبل على قراءتها. من ناحية أخرى، تمثل الصحف الخاصة، مع اختلاف جماهيريتها، قنوات اتصال بين الكتّاب والقراء.. صحيح أن مالكيها أصحاب رسالة؛ سياسية أو فكرية أو تجارية، ويهمهم أن تحقق صحفهم هذه الرسالة، لكن تبقى الحقيقة ماثلة أمام الأعين وهى أننا على المستوى العام بصدد بضاعة كاسدة غير قادرة على تلبية حاجات المجتمع فى النهضة والتقدم.