بمجرد إعلان مصر عن عزمها البدء فى مشروع السد العالى، طالبت إثيوبيا بالمشاركة فى مفاوضات 1959 بين مصر والسودان والحصول على حصة مائية، ورفض «عبدالناصر» طلبها استناداً إلى حقوق مصر والسودان فى اتفاقية 1902 مع إثيوبيا. وتلا ذلك مطالبة بريطانية بالمشاركة فى المباحثات نيابة عن دول الهضبة الاستوائية المحتلة، وقوبل أيضاً طلبها بالرفض. وبعد توقيع اتفاقية عام 1959، تم إنشاء الهيئة الفنية الدائمة المشتركة لمياه النيل بين مصر والسودان، التى تقدمت إليها عام 1963 ثلاث من دول الهضبة الاستوائية وهى أوغندا وكينيا وتنزانيا بمطالبها المائية العاجلة وكانت فى حدود 710 ملايين متر مكعب سنوياً، ووافقت مصر والسودان عليها. واستمرت المباحثات بين دول الهضبة الاستوائية وهيئة مياه النيل عن مصر والسودان حتى انتهت إلى قيام مشروع الدراسات الهيدرومترولوجية (الهيدرومت) عام 1967 بدعم من الأممالمتحدة وبهدف تطوير القياسات المائية فى دول الهضبة الاستوائية لدراسة احتياجات دول الهضبة من مياه النهر، وانضم لاحقاً لهذا المشروع كل من رواندا وبورندى والكونغو الديمقراطية. وانتهى المشروع عام 1992 بعد إعداد قاعدة بيانات مائية لدول الهضبة الاستوائية، بالإضافة إلى إعداد نموذج رياضى لمعرفة تأثير الاحتياجات المائية لهذه الدول على دولتى المصب. وفى عام 1993 اتفقت مصر والسودان مع دول الهضبة الاستوائية على بدء مشروع آخر «التيكونيل» لإعداد دراسات تفصيلية عن الاحتياجات المائية لهذه الدول وللتعاون فى مجالات تخطيط وإدارة المياه والبيئة والتدريب. وكانت إثيوبيا قد شاركت فى هذا البرنامج كمراقب، وانتهى المشروع عام 1998. وبالرغم من استمرار المفاوضات بين دول الهضبة الاستوائية ومصر والسودان ما يقرب من أربعين عاماً ولكنّها لم تنته إلى اتفاق يرضى الطرفين بالرغم من أنّ مسار المباحثات كان فى إطار من النوايا الحسنة، وكان يهدف فقط إلى تأمين الاحتياجات المائية لدول المنبع وليس للوصول إلى محاصصة مائية. وقد يعزى البعض هذا الفشل لمبالغة دول المنبع فى تقدير احتياجاتها المائية، ولكن كان يجب على المفاوض المصرى الأخذ فى الاعتبار أنّ تأثير الاستخدامات المائية لهذه الدول محدود على حصتى مصر والسودان. إنّ الاتفاق مع هذه الدول فى الماضى كان سيفوت الفرصة أمام إثيوبيا للاستقواء بها فى التفاوض مع مصر. بعد انتهاء مشروع التيكونيل فى ديسمبر 1998، بدأ مشروع مبادرة حوض النيل بمشاركة جميع دوله باستثناء إريتريا التى شاركت كمراقب. ومن خلال المبادرة تم التفاوض حول اتفاقية إطارية لتنظيم استغلال وإدارة مياه النهر، الذى انتهى بتوقيع ست دول منابع للاتفاقية (ما تسمى باتفاقية عنتيبى) ورفض مصر والسودان والكونغو لها. ومبادرة حوض النيل حولت مسار المفاوضات بين دول الحوض من دراسة احتياجات لدول المنبع إلى محاصصة مائية. وبالرغم من امتداد التفاوض حول هذه الاتفاقية لحوالى عشر سنوات فإنه لم يكن هناك تفاوض حقيقى. لقد قامت دول المنبع بمراجعة اتفاقية الأممالمتحدة لعام 1997، فقبلت ما تقبله منها من بنود وعدلت بعض البنود الأخرى، وحذفت البنود التى لا تتماشى مع رغباتها. ورفضت دولتا المصب ما تم حذفه من بنود فى اتفاقية الأممالمتحدة وطالبتا بتضمينها الاتفاقية، مثل بند (3) الذى ينص على عدم مخالفة أحكام اتفاقية 1997 للاتفاقيات السابقة، وبند (8) عن الإخطار المسبق، ولكن دول المنبع أصرت على موقفها اعتماداً على أنّهم الأغلبية. الخلاصة أنّ مسار مفاوضات عنتيبى لم يكن يهدف التوصل إلى حل وسط أو حتى فوز دول المنبع على دولتى المصب بالنقاط، بل كان محاولة للفوز بالأكتاف أو بالضربة القاضية كما فى لعبتى المصارعة والملاكمة. وتتمثل أهم سلبيات اتفاقية عنتيبى فيما يلى: - عدم الاعتراف بجميع الاتفاقيات التاريخية السابقة مع دول الهضبة الاستوائية وإثيوبيا والسودان ولا تقر بالحقوق أو الاستخدامات المائية لدولتى المصب. - إغفال الإجراءات التنفيذية لمبدأ الإخطار والتى تعطى الحق للدول المتضررة فى الاعتراض على مشروعات وسدود دول المنبع. - النص على تعديل العديد من المواد وملاحق الاتفاقية بالأغلبية وليس بالتوافق مما يمكّن دول المنبع من تغيير هذه المواد دون الرجوع إلى مصر والسودان. - المعايير المدرجة للاستخدام العادل والمنصف للمياه تميل إلى دول المنبع على حساب دولتى المصب وذلك مقارنة باتفاقية الأممالمتحدة لعام 1997. - تنص الاتفاقية فى بندها السادس على المحافظة على الأراضى الرطبة فى دول الحوض والتى يفقد فيها كميات هائلة من إيراد النهر، مما يعوق القيام بأى مشاريع لاستقطاب الفواقد وزيادة إيراد النهر وبما يكفى احتياجات جميع دول الحوض. - إغفال الاتفاقية لأى بنود تختص بالإدارة المشتركة للنهر وحق دولتى المصب فى المشاركة فى مشاريع أعالى النهر، وذلك بالخلاف على ما نصت عليه اتفاقية الأممالمتحدة للأنهار المشتركة لعام 1997 من ضرورة مشاركة جميع دول الحوض فى إدارة النهر. الخلاف فى حوض النيل باختصار يتمثل فى أنّ دول المنبع تريد حصصاً مائية اقتطاعاً من حصتى مصر والسودان، بينما مصر والسودان تعانيان عجزاً مائياً كبيراً. فمصر حصتها من نهر النيل ثابتة منذ 1959، بينما زاد سكانها من 26 مليوناً حينذاك إلى 90 مليون نسمة حالياً، وزادت الرقعة الزراعية من أقل من 6 ملايين فدان إلى نحو 8.4 مليون فدان حالياً. ويتزايد العجز المائى من عام لآخر والذى تدبره الدولة من خلال تدوير عوادم الاستخدامات واستقطاب فواقد المياه. والكفاءة الكلية لمنظومة المياه فى مصر حوالى 74% وهى من أعلى الكفاءات المائية إقليمياً، ورفع الكفاءة إلى درجات أعلى يتطلب موارد مالية ضخمة وكميات المياه الممكن توفيرها بالكاد تكفى الاحتياجات المستقبلية. ونصيب الفرد من المياه المتجددة فى مصر قد تدنى إلى أقل من 625 متراً مكعباً سنوياً أى أقل من حد الفقر المائى، وازدادت الفجوة الغذائية اتساعا لتصل إلى 7-8 مليارات دولار سنوياً. ومما يزيد هذا الخلاف الفنى السياسى اشتعالاً، الممارسات المائية الإثيوبية المرتكزة على اعتقادها بسيادتها المطلقة على المياه النابعة من أراضيها وقيامها ببناء السدود دون إخطار مسبق سواء فى الماضى مثل سدود شارا شارا وفتشا وتاكيزى وتانا بليس، أو فى الحاضر مثل سد النهضة ذى التداعيات الكبيرة على مصر.