تحتفظ عائلة مارتيروس مراديان، ببسط منسوجة يدويا وملاعق خشبية هي كل ما تبقى لها من مقتنيات جدها، الذي اضطر قبل قرن إلى الفرار من أرمينيا للنجاة بحياته. وإن كانت البسط بهتت ألوانها والملاعق الخشبية باتت مفتتة، إلا أن ذاكرة أحفاد مراديان لا تزال حية إذ نجح في نقل جروح مأساة تبقى ماثلة في ذهن الشعب الأرمني عبر الأجيال. وتروي روزانا حفيدة مارتيروس (17 عاما)، لوكالة "فرانس برس"، "أعرف كل تفصيل من تاريخ المجازر الفظيعة"، وتتابع "أعرف كل تفاصيل المسيرة اللاإنسانية على طول طريق الموت، وكيف قاوم جدي وأصدقاؤه الأتراك حتى تتمكن 12 عائلة من الفرار". ويقول الأرمن، إن مليونا ونصف مليون شخص قتلوا بشكل منهجي بين عامي 1915 و1917، وخلال السنوات الأخيرة قبل سقوط الإمبراطورية العثمانية، واعترف العديد من المؤرخين وأكثر من عشرين دولة بينها فرنسا وإيطاليا وروسيا فضلا عن البابا فرنسيس بإبادة الإرمن. أما تركيا، فتؤكد من جهتها أن الحرب الأهلية والمجاعة هما ما تسبب بمقتل 300 إلى 500 ألف أرمني وعدد مماثل من الأتراك. ويروي هوفانيس حفيد مارتيروس، "أذكر سهرات كان يتجمع فيها كل أطفال الحي أمام منزلنا ليستمعوا بذهول إلى جدي يروي كيف قتل الأتراك الأرمن". ويؤكد "لم يكن يسأم من تكرار القصة لنا، ولم نكن نسأم من الاستماع إليها". وبعدما توفيت الغالبية العظمى من الذين نجوا من المجازر، فإن أبناءهم وأحفادهم هم الذين يسهرون على الذاكرة الجماعية. وقال مناتسكان (84 عاما) ابن مارتيروس وجد روزانا "أحرص على أن أنقل لأولادي ما رواه لي والدي، وأبنائي من بعدي يقومون بالأمر نفسه"، ويؤكد "هذا واجبنا، واجب كل أرمني: أن يعرف ويذكر". وفي أرمينيا، الإبادة مدرجة في المناهج الدراسية وهي حاضرة أيضا في الحياة اليومية، فالقرى أعطيت أسماء بلدات كانت قائمة قبل المأساة في "أرمينياالغربية"، وهي منطقة باتت اليوم جزئا من تركيا غير أن الأرمن ما زالوا يشيروا إليها بأسمها القديم. وقال خاتشاتور غاسباريان وهو عالم نفسي أرمني شهير، إن ذكرى الإبادة اليوم حية كما قبل قرن، وهي تنتقل من جيل إلى جيل بفضل دروس التاريخ في المدرسة والأدب والأفلام، إنما كذلك بفضل الذاكرة التي تتناقلها العائلات. وشدد على أن "ذكرى الإبادة تطبع الهوية الوطنية الأرمنية"، كما أنها تطبع المشهد في بعض المدن الكبرى مثل يريفان، حيث نصب سهم رمادي عال يشرف على العاصمة ليذكر الجميع بالطريق الذي يسلكه مئات آلاف الحجاج كل سنة للتوجه إلى النصب حيث يتم إحياء ذكرى المأساة. وقال غاسباريان، إن الأرمن رجالا ونساء، أيا كانت أعمارهم وقناعاتهم السياسية، تعاقبوا عند هذا النصب التذكاري لتكريم الضحايا كل سنة في 24 أبريل، هذا يدل على أن هذا الحدث بات جزءا من وعينا الاجتماعي، وأنه بات مدونا في ذاكرتنا المتوارثة. ويطل منزل عائلة مارتيروس مراديان على مشهد جبل أرارات المكلل بالثلج، وعلى سفحه قرية الجد القديمة التي شهدت الماساة، وفر مارتيروس من قريته عام 1915 هربا من الأتراك قبل أن يستقر في الموقع الذي يعيش فيه أحفاده الآان. وجبل أرارات الذي استقرت على قمته سفينة نوح بحسب الرواية التوراتية، يقع اليوم في تركيا غير أنه يبقى بالنسبة للأرمن تذكيرا أليما بالخسائر البشرية والجغرافية الفادحة التي تكبدتها أمتهم. ويقول مناتسكان "ظل والدي حتى أيامه الأخيرة يتأمل أرارات بحنين ولم ينقطع يوما أمله في أن يأتي يوم مبارك ويعود فيه إلى بيته القديم". وفي هذا الصيف بعد مئة عام على رحيل مارتيروس من منزله حاملا بعض البسط وملاعق خشبية، قررت عائلته الذهاب إلى تركيا لزيارة قرية طفولته وهم يأملون في أن يعيدوا معهم بضع حفنات من تراب مسقط رأسه لنثرها على قبره في أرمينيا، وتقول حفيدته روزانا وهي تبتسم "ظل يحلم بالعودة إليها".