تبدو تجربة التدخل العسكرى المصرى فى اليمن التى بدأت فى 1962 وانتهت فى 1967 شديدة الحضور فى الجدل الحالى حول المشاركة المصرية فى العمليات العسكرية التى بادرت بها السعودية لوقف تقدم الحوثيين فى اليمن، وهى شديدة الحضور سواء بالنسبة لرافضى هذه المشاركة أو مؤيديها، فالرافضون إما أنهم يتحججون بأن نتائج تجربة التدخل فى الستينات كانت كارثية أو على النقيض بأن التجربة كانت لنصرة ثورة خلّصت الشعب اليمنى من ربقة الاستبداد والتخلف التى دامت قروناً بينما أهداف التدخل الحالى ملتبسة، أما المؤيدون فهم يرون أن تدخل الستينات تم فى ظل انقسام عربى ومعاداة للسعودية، أما الآن فإنه يتم فى ظل ما يشبه الإجماع العربى، وفى هذا الإطار فإن الأمم يجب أن تتعامل مع تاريخها باحترام ولا تخجل منه وإنما تفهمه كى تعى دروسه، ومصر لا تعتذر عن تدخلها فى اليمن فى الستينات، فكما أن هناك مبررات حتّمت القرار الحالى كان لقرار الستينات مبرراته، وفى الحالتين يجب أن يُفهم القراران فى إطارهما السياسى: فى الحالة الأولى كان عبدالناصر ومشروعه التحررى الذى امتد بطول الوطن العربى وعرضه، وكان هذا المشروع قد تلقى أول ضربة من نوعها بالانفصال السورى عن مصر فى 1961، وبعد سنة من هذه الضربة وقعت الثورة فى شمال اليمن وناشدته دعمها ضد خصومها، وكان من شأن تقاعس عبدالناصر عن نصرتها أن يؤكد أن مشروعه فى انحدار وأن دور مصر القيادى فى الوطن العربى إلى زوال، والآن فإن مصالح مصر شديدة الوضوح، سواء فيما يتعلق بتأمين باب المندب أو حماية الحلفاء الخليجيين أو منع الهيمنة الإيرانية على الوطن العربى الذى يزخر بالمصالح المصرية الحيوية، وكما كان خصوم مشروع عبدالناصر ضد التدخل فى الستينات فإن خصوم مشروع السيسى ضد المشاركة فى عاصفة الحزم الآن. لم يكن التدخل المصرى فى اليمن كارثياً كما هو شائع. صحيح أن تكلفته البشرية والمادية كانت كبيرة وإن حدثت بشأنها مبالغات كالقول بأن عدد شهداء مصر فى اليمن قد تجاوز الأربعين ألفاً، وهو ما يعنى أن كل من أرسلتهم مصر للقتال فى اليمن تقريباً قد ماتوا، أو تحديد التكلفة المادية بمبالغ تتجاوز ميزانية مصر آنذاك بعشر مرات بحيث يحار المرء كيف كان الشعب المصرى يأكل ويشرب فى سنوات التدخل الخمس، وأياً كان الأمر فإن تكلفة القرارات تؤخذ فى الحسبان بطبيعة الحال عند اتخاذها، لكنها لا تكون الفيصل فى ذلك لأن الاعتبار الأول يكون للمصالح المتضمنة فى القرار، ثم إن مصر تعتز بدورها التاريخى فى حماية ثورة أخرجت الشعب اليمنى من غياهب التخلف والاستبداد، وفى رعاية حركة التحرر الوطنى فى جنوب اليمن التى تمت من ألفها إلى يائها برعاية المخابرات الحربية المصرية فيما سُمى بالعملية «صلاح الدين» التى نفذتها سواعد اليمنيين فى الجنوب وحققت النصر الكامل فى زمن قياسى لم يتجاوز أربعة أعوام، وحصدت مصر ثمار غرسها فى اليمن بعد أقل من ستة أعوام عندما قامت البحرية المصرية فى حرب أكتوبر 1973 بإغلاق مضيق باب المندب فى وجه الملاحة الإسرائيلية بالتنسيق مع السلطات اليمنية، ولا تُسأل مصر عن إخفاق النخب اليمنية لاحقاً فى حماية ثورتها وبناء دولتها الحديثة، وأخيراً فإنه من الشائع أن تُنسب لتدخل مصر فى اليمن مسئولية هزيمة 1967 مع أن أسباب الهزيمة ضاربة فى أعماق النظام المصرى آنذاك. عندما كنت أعد رسالة الدكتوراه عن تدخل مصر عسكرياً لنصرة الثورة اليمنية كان طبيعياً أن أحاول التعمق فى تاريخ العلاقات المصرية - اليمنية، وفوجئت بأن ثمة نموذجاً واضحاً لذلك التاريخ يمكن القول معه بشىء من المبالغة أن كل من حكم مصر قد تدخل فى اليمن، فقد حدث التدخل فى عهود الحكم الرومانى وحكم الفاطميين والأيوبيين والمماليك وحكم محمد على وجمال عبدالناصر، وها هو السيسى ينضم للنموذج التاريخى، وأنا أعلم هواجس الرأى العام المصرى بشأن المشاركة الحالية فى العمليات العسكرية فى اليمن واحتمالات امتدادها زمنياً والاضطرار إلى التدخل البرى ومن ثم توقع حدوث خسائر بشرية ليست بالقليلة وكل هذا فى إطار القلق على الاستقرار فى الداخل، ولا شك أن للشعب المصرى حقاً فى أن تكون هناك شفافية كاملة بخصوص كافة أبعاد المشاركة المصرية فى القتال فى اليمن، وأن يطمئن من خلال خطاب إعلامى رسمى واعٍ إلى أن قيادته تحسب لكل أمر حسابه، لكن عليه فى الوقت نفسه أن يدرك أنه عندما تكون المصالح الوطنية المصرية مهددة فإن القرارات بشأن حماية هذه المصالح لا تتحدد فقط بالحسابات البشرية والمادية وإنما أساساً بالاعتبارات الاستراتيجية، وأعتقد أن المصريين ليسوا فى حاجة لأن يعلمهم أحد أنه فى التحالفات الدولية لا يمكن لطرف أن يأخذ حلو هذه التحالفات ويتجنب مرها، وليعلم المصريون أن ما يجرى الآن هو جزء من عملية تاريخية لاستعادة الدور الإقليمى لمصر وأن نجاح هذه العملية يتوقف إلى حد بعيد على دعمهم لها وتحملهم مسئولياتها.