اختَر أى شارع فى أى مدينة فى أى محافظة فى مصر، ودقق جيداً فى التفاصيل: البشر السائرين، السيارات، المتاجر، العمارات.. ستدرك جيداً ما الذى كان مبارك يعنيه وهو يتحدث فى النزع الأخير للسلطة، قائلاً «عليهم أن يختاروا: إما أنا أو الفوضى». بالتأكيد لم يكن مبارك، عالماً اجتماعياً، ليدرك حقيقة أننا شعب فوضوى، لكن الأجهزة التى عملت معه ومع سلفيه ناصر والسادات، كانت على علم تام بتلك الحقيقة، حقيقة الفوضى التى اختارها الشعب ثقافة وشعاراً ومنهاج حياة منذ أفول الحكم الفرعونى. نحن نتعايش مع أى شىء، لدينا قدرة فذة على وضع المتناقضات والمتنافرات جنباً إلى جنب، نستوعب كل الثقافات ونصنع أمزجة من العادات والتقاليد، الجمل إلى جوار السيارة الفارهة، الكنيسة إلى جوار المسجد، شارع الهرم موازٍ لشارع فيصل، بولاق الدكرور إلى جوار المهندسين، وعزبة الهجانة إلى جوار مدينة نصر، نرتدى الجينز ونسهر حتى الصباح فى المقاهى، ولا ننسى أن «نخطف صلاة الفجر» أو «نلحق القداس باكراً»، ندخن الحشيش والبانجو ونسجل المرتبة الأولى بين شعوب العالم فى البحث عن المواد الجنسية على شبكة الإنترنت، لكننا دائماً لا نفتأ نذكر اسم الله، أسوة بلصوصنا الذين يطلبون عون الله وهم يؤدون ما عليهم، وأسوة بأخينا الفنان مصطفى شعبان وهو يقول «وكله بما يرضى الله» حين يهم بامرأة. نحن الذين نسمى كل مظاهرة، مليونية، ويثور البعض بحثاً عن المدينة الفاضلة، فيأتى الباقون ليصنعوا من الحرية مساحات خلاقة للفوضى، وليس فوضى خلاقة، كل ما كان حراماً ومخالفاً للقانون صار حلالاً، وكل ما كان حلالاً صار حراماً. نحن الذين لدينا حاكم يعاير محكوميه بأن لديه تسجيلات ضدهم، ونحن الذين نحلم بالحرية فننتخب الإخوان والسلفيين ليأتوا لنا بها، نحن أكثر الشعوب غناء لبلادنا، ونحن أيضاً أكثر الشعوب رغبة فى تركها. هذا التجاور العجيب لكل المتناقضات، هو آفتنا الكبرى، لكنه فى الوقت نفسه، عاصمنا من أى شخص أو جماعة تسول لها نفسها السعى لضرب هذه الفوضى، سيرفض الشعب من يسلب منه نعمة الفوضى، نعمة القدرة على فعل الشىء ونقيضه، نعمة الدين والدنيا حسب تفسيرنا «ساعة لقلبك وساعة لربك». صحيح أن هناك إمارات سوف تتشكل فى الصعيد والمحافظات الحدودية، لكن القلب سيظل مقاوماً، مدافعاً عن الفوضى والعشوائية. وإذا لم يدرك الإخوان «محرومية» ضرب حق المواطن فى الفوضى والعشوائية والحرية، فإنهم يكتبون نهايتهم بأنفسهم. .. أما إخوتى الثوار، فأقول لهم «تعيشوا وتاخدوا غيرها».