60 عاما، قضاها في الكد والعمل. لم يجف جبينه ولم يتوقف سعيه ونضاله، حتى أجبرته "إصابة عمل" على "الراحة". أبي اليوم يعاني الضجر أكثر من وجع الإصابة، كطائر سلبوه حرية الحركة، مقابل سلامة الجسد. "الصبر" هو سلاحه الوحيد لمواجهة "الملل"، لكنه لا يلغي الألم. عصر يوم شتوي، بمستشفى بنها الجامعي. زحام من المرضى والأهالي، والأطباء والممرضين والعمال بقسم "استقبال الجراحة". يتردد "طلبة الامتياز بكلية الطب" على "الحالة" فيلقى كل منهم نظرة على جرح قطعي في القدم ثم يتراجع، لفزعه من الاصابة. الرجل الستيني، ضعيف البنية مستلقى على السرير، يستعيض عن الدم النازف منه ب"كيس دم" مُعلق في ذراعه، بينما استدعت الصدمة النفسية من عقله الباطن، آيات قرآنية وأدعية، لم يتوقف عن ترديدها، بصوت مسموع، رغم التخدير ونوبات الغيبوبة المتقطعة. الجرح عميق ويحتاج جراحة دقيقة وخبرة لا تتوافر ل"طلبة الامتياز". فجأة يظهر طبيب قصير القامة هادئ الطبع، يتفحص وجوه المتحلقين حول أبي الغارق في دمائه، ويبدأ العمل فورا دون حديث، وبعد أن ينهي خياطة "داخلية وخارجية" للجرح، يخبرهم أنه "بلدياتنا من طحانوب، اسمه أحمد أبوستيت، كان طالبا في المدرسة الثانوية التي كان والدي يعمل بها". دخلنا مرحلة عمل "الأشعة" على الجسد كله، فكشفت عن كسرين بالذراع والساق اليسرى، وارتجاج بالمخ وشرخ في قاع الجمجمة. قرر الاطباء احتجاز "الحالة" في قسم المخ والأعصاب. لطفك يارب. 3 أيام والجسد الذي لم يعرف "الراحة" قبل الاصابة، مُجبر الآن عليها، بفعل الصدمة والارتجاج والشرخ والجرح. اللسان الرطب بالذكر و القرآن، لم يتوقف عن المناجاة. الزيارة ممنوعة بأوامر الاطباء. قلق وهواتف لا تتوقف عن الرنين. تمر مدة "الملاحظة المباشرة" لحالة المخ، ببطء لينتقل إلى قسم العظام. تنتظره 3 جراحات بالذراع والساق. لحسن الحظ أن استشاري العظام هو صديقه الدكتور ممدوح الكرماني، استشاري وأستاذ العظام بجامعة بنها، نجل العلامة الزاهد، الدكتور محمد الكرماني، أحد أكبر أطباء العظام، الشهير برائد العمل الخيري. ذرية بعضها من بعض. من فضل الله أنها المرة الأولى التي يرقد فيها أبي هكذا. وهو الذي لم يحصل على يوم واحد إجازة من العمل في حياته. مر "عيد الأم" علينا بالمستشفى دون مشاغبته بالسؤال عن هدايا "الأب". بعد أيام حل يوم ميلاده الستين، وموعد خروجه على المعاش في 2 أبريل 2015، وهو نائم متأثرا جرعات العلاج. وفي فترات صحوه، كان الضجر والملل والضيق ضيوف ثقيلة تفرض نفسها عليه. وكل آلام الاصابة لا تساوى صرخة واحدة مكتومة بداخله، لا هو يطلقها فيهدأ، ولا راحة في كتمانها. ولا جديد لدى الاطباء سوى نصيحة مخلصة بالصبر. خلال أسبوع عصيب أُجريت جراحات العظام بسلام، وأنهينا إجراءات روتينية معقدة للخروج من المستشفى والعودة للمنزل. الأزمة النفسية والعصبية التي داهمت أبي لم تكن مجرد صدمة من حادث مروع، بل أشبه بعصا أوقفت العجلة فجأة. كان يستعد للتفرغ التام للعمل الخيري بعد "المعاش"، فوجد نفسه لا يقوى على الحركة، والأيام المتبقية لبلوغ سن "المعاش"، انقضت داخل المستشفى، وزيارته لبيت الله الحرام ستؤجل لشهور، ولن يتمكن من توصيل حفيدته "كرمة" إلى الحضانة. أرافقه في فترات إفاقته، فأكتشف الأصعب على نفسه. لا يتذكر ما جرى له، ولا يُدرك أن سبب إصابته أثناء عودته من العمل، حادث تصادم مع سيارة نقل حكومية بدون لوحات، تابعة لوحدة محلية بالقليوبية، كان سائقها يسير بسرعة جنونية، في منحنى خطر، على طريق "شبين القناطر – قليوب" الفرعي. أبي، عاطف السيد حِميَّر. المميز بلقب العائلة المنسوب للملكة اليمنية القديمة. يتفاخر دوما بانتمائه لمشروع جمال عبدالناصر، ويباهي بناصريته وحبه لحمدين صباحي، ويعتز بالتجربة الناجحة لوحدة للحزب الناصري بطحانوب في التسعينات، ومشاركته في تأسيس حزب الكرامة والتيار الشعبي. ورغم بلوغه الستين، مازال يحرص على الجلوس بين يدي مشايخنا حَمَلة كتاب الله ومحبي آل البيت والأولياء، كمريد مبتدئ من محبي العارف بالله سيدي "اسماعيل أبو ضيف" يلتمس البركة ويطلب الوسيلة وينتظر النفحة. يتواضع بنُبل أمام ثناء زملائه على كفاءته وخبرته في التوجيه المالي والاداري بالتربية والتعليم. ويكفيه من الدنيا أن يقضى وقته في عمل الخير، ربما تفلح مساعيه في توفير علاج لمريض فقير أو فرصة عمل لكادح أو إعانة لامرأة معيلة أو مساعدة أطفال أيتام، أو إدخال البهجة على نفوس أطفال نجحوا في اختبارات حفظ كتاب الله. قوم يابا. هذه "الراحة المُتعبة" لا تليق بك. هات إيدك.