انتخابات مجلس النواب 2025.. خطوات الاستعلام عن اللجنة الانتخابية بالمرحلة الأولى (رابط)    محافظ قنا يشارك في احتفالات موسم الشهيد مارجرجس بدير المحروسة    نشأت أبو الخير يكتب: القديس مارمرقس كاروز الديار المصرية    البابا تواضروس ومحافظ الجيزة يفتتحان عددًا من المشروعات الخدمية والاجتماعية ب6 أكتوبر    انقطاع التيار الكهربائي عن 19 قرية وتوابعها فى 7 مراكز بكفر الشيخ    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية قبل بداية تعاملات الاثنين 10 نوفمبر 2025    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الإثنين 10 نوفمبر 2025    سعر الذهب اليوم الإثنين 10_11_2025 في الصاغة.. عيار 21 الآن بعد الارتفاع الأخير    وزير المالية يكشف معلومات جديدة حول برنامج الصكوك المحلية    مساعد وزير الصحة لنظم المعلومات: التحول الرقمي محور المؤتمر العالمي الثالث للسكان والصحة    مصر والسعودية توقّعان برنامجًا تنفيذيًا للتعاون المشترك في مجال السياحة    دميترييف يعلق على استقالة إدارة هيئة الإذاعة البريطانية    اندلاع مواجهات عنيفة بين فلسطينيين وجيش الاحتلال الإسرائيلي شمال القدس المحتلة    سلاح الجو التابع للجيش السودانى يستهدف مواقع لقوات الدعم السريع بمطار نيالا    رعب فى بروكسل بعد رصد طائرات مسيرة تحلق فوق أكبر محطة نووية فى بلجيكا    ملخص وأهداف مباراة سيلتا فيجو ضد برشلونة 2-4 في الدوري الإسباني    التشيك قد توقف تزويد أوكرانيا بالذخائر    الأوبرا الوطنية في واشنطن تدرس مغادرة مركز كينيدي بعد استيلاء ترامب وتراجع الدعم    قلص الفارق مع ريال مدريد.. برشلونة يهزم سيلتا فيجو بهاتريك ليفاندوفسكي    نادر السيد: الأفضل استمرار أحمد عبد الرؤوف فى قيادة الزمالك رغم خسارة السوبر    ON SPORT تعرض ملخص لمسات زيزو فى السوبر المحلى أمام الزمالك    «لاعيبة لا تستحق قميص الزمالك».. ميدو يفتح النار على مسؤولي القلعة البيضاء    بشير التابعي معلقًا على خسارة الزمالك: «الأهلي كان ممكن يفوز 16- 0.. ويجب رحيل جون إدوارد»    «مش هتضفلك».. رسالة قوية من ميدو ل زيزو بعد تصرفه مع هشام نصر    الكشف إصابة أحمد سامي مدافع بيراميدز    3 سيارات إطفاء تسيطر على حريق مخبز بالبدرشين    تطورات الحالة الصحية للمطرب إسماعيل الليثى بعد تعرضه لحادث أليم    كشف ملابسات فيديو صفع سيدة بالشرقية بسبب خلافات على تهوية الخبز    هدوء ما قبل العاصفة.. بيان مهم بشأن تقلبات الطقس: استعدوا ل الأمطار والرياح    أداة «غير مضمونة» للتخلص من الشيب.. موضة حقن الشعر الرمادي تثير جدلا    أمطار على هذه الأماكن.. بيان مهم من الأرصاد يكشف حالة الطقس خلال الساعات المقبلة    الصحة ل ستوديو إكسترا: 384 مشروعا لتطوير القطاع الصحي حتى عام 2030    ميشيل مساك لصاحبة السعادة: أغنية الحلوة تصدرت الترند مرتين    عمرو أديب يهاجم أحمد سيد زيزو: «ابلع ريقك الأول»    عمرو أديب عن العلاقات المصرية السعودية: «أنا عايز حد يقولي إيه المشكلة؟!»    لا تنتظر التغيير.. توقعات برج الجدي اليوم 10 نوفمبر    حضور فني ضخم في عزاء والد محمد رمضان بمسجد الشرطة بالشيخ زايد.. صور    آليات الاحتلال تطلق النار تجاه المناطق الشرقية لدير البلح بغزة    تجديد حبس عناصر تشكيل عصابى للسرقة بالإكراه فى القليوبية    مي عمر تشارك في بطولة فيلم "هيروشيما" أمام السقا    طريقة عمل الكمونية فى خطوات بسيطة وبمذاق لا يقاوم    القومي للمرأة يكرم خريجات أكاديمية أخبار اليوم المشاركات في لجنة رصد دراما رمضان 2025    نجل عبد الناصر يرد على ياسر جلال بعد تصريح إنزال قوات صاعقة جزائرية بميدان التحرير    فوائد زيادة العضلات بالجسم بعد الأربعين    بيطري القليوبية تطلق حملة لتحصين الماشية للوقاية من الأمراض    دايت من غير حرمان.. سر غير متوقع لخسارة الوزن بطريقة طبيعية    خيانة تنتهي بجريمة.. 3 قصص دامية تكشف الوجه المظلم للعلاقات المحرمة    محافظ الغربية يتفقد مستشفى قطور المركزي وعيادة التأمين الصحي    هل يجوز أن تكتب الأم ذهبها كله لابنتها؟.. عضو مركز الأزهر تجيب    هل يجوز الحلف ب«وحياتك» أو «ورحمة أمك»؟.. أمين الفتوى يُجيب    زينة تقدم واجب العزاء لوالد محمد رمضان بمسجد الشرطة    خالد الجندي: الاستخارة ليست منامًا ولا 3 أيام فقط بل تيسير أو صرف من الله    هل يذهب من مسه السحر للمعالجين بالقرآن؟.. أمين الفتوى يجيب    "القومي للأشخاص ذوي الإعاقة" يطلق ماراثون "حقهم يفرحوا.. واجبنا نحميهم"    بث مباشر.. صدام النجوم المصريين: مانشستر سيتي يواجه ليفربول في قمة الدوري الإنجليزي    انتخابات مجلس النواب 2025.. اعرف لجنتك الانتخابية بالرقم القومي من هنا (رابط)    معلومات الوزراء : 70.8% من المصريين تابعوا افتتاح المتحف الكبير عبر التليفزيون    تعرف على مواقيت الصلاة بمطروح اليوم وأذكار الصباح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوطن" فى "عزبة مكى".. الوجه الآخر ل"المدرس القاتل"
الجيران والأقارب فى وصلة دموع ودفاع عن «وليد»: «جعلوه مجروح» لأنه ملتح.. وسجنوه ظلماً وعدواناً
نشر في الوطن يوم 20 - 03 - 2015

أطفال المسجد المجاور لمنزل المتهم: الشيخ «وليد» بيحفظنا القرآن ويأكلنا شيكولاته ..و«سعدية»: «أنا أمه التانية»
13 يوماً و12 ساعة و15 دقيقة، تحصيها جيداً على مسبحة لا تفارق يدها، تفرك حباتها بين أصابعها، تتمتم بأدعية فى سرها، يتعلق ما تبقى من نواظرها الذى شارفت على فقدانها حزناً، على نافذة المنزل، حيث ممر ضيق يفصل بين منزلها المتواضع ومثيله بشارعهم المعتم، فى اليد الأخرى تمسك ب«ريموت» التلفاز، تقلب بين قنواته، عسى تلمح خبراً يسر قلبها عن الابن الغائب «وليد» الذى اختطف من بين أحضانها، فتزورها الأوهام مرة بأن تجده مقبلاً عليها كعادته، يقبل يدها، ويمسح على رأسها الشائب، وأخرى يهيأ لها أنه يصرخ وحده داخل المحبس الذى ألقى فى غياهبه زيفاً حسبما يحدثها قلبها. «قلت له: احلق دقنك يا ولدى، مارضيش، الله يجازيه دماغه ناشفة!»، تقولها لمن يسأل عن أخبار «الضنا» الحاضر الغائب وأحوالها من بعده، ثم تواصل العُزلة التى فرضتها على نفسها منذ رحيله.
أنوار المنزل انطفأت أياماً طويلة، ليس فقط لغياب رب الأسرة، لكن لمغادرة شقيقيه تباعاً واحداً تلو الآخر، هجروا منزل العائلة مؤقتاً بسبب ملاحقة الإعلام لهم، بعبارات مثل «المدرس السفاح الإخوانى، قاتل تلميذه داخل مدرسة (شهداء بورسعيد)»، وتهديدات لعائلة «وليد محمد هلال» بالانتقام، من عائلة المجنى عليه، عسى يشفى الغليل المتوهج فى صدورهم، بحسب «محمد شوقى»، أحد أبناء عمه، «كان لازم نسافر الصعيد كام يوم، رجعنا لما الإعلام هدى علينا شوية، وبطل يتكلم عن الموضوع، الإعلام تجنى على (وليد) قبل المدرسة والوزارة.. عايزين جنازة ويشبعوا فيها لطم»، هكذا يصف الرجل الأربعينى، نافياً أن يكون العنف زار منزلهم الهادئ يوماً ما.
فترة غياب العائلة عن المنزل لم يشعر فيها أهالى شارع «لبيب جوهر» بمنطقة عزبة مكى الشعبية، بأى فارق، فعلى أى حال، تبقى عائلة «وليد» بالسنوات لا يُسمع لهم حس أو يرى لهم أى طيف عابر، سوى صدفة فى الأعياد وحين بلوغ شهر رمضان، حيث تتولى الأم توزيع حقائب الخير على الأقارب والجيران رغم ضيق ذات اليد، فالسيدة «خديجة» أو «أم وليد» حسبما اشتهرت، قليلة الكلام، وإن تحدثت فهى عذبة اللسان، عُرفت بين أهل المنطقة بخلاف أياديها البيضاء، بالبُعد عن العنف فى تربية الأبناء، «فكيف لها أن تلد من بين أحشائها مجرماً حسبما يصف الإعلام، يعصى أمر الله، فيقتل روحا بريئة؟، دى ست العيب مايطلعش من بقها، ربت الأولاد بعد ما مات أبوهم، وحفّظتهم القرآن»، هكذا يقول يوسف حسن، شقيقها وخال المتهم «وليد».
«من البيت للمسجد ومن المسجد للبيت».. أكثر من مرة تتكرر ذات الجملة، فلا يقع السؤال عن أحوال عائلة «وليد» على مسامع أحد من الجيران إلا وأمطروا السائل وصفاً وغزلاً فى أخلاقه ومحاسنه، «بيقولوا قال إيه إخوان؟!» تهكم تبعه عدد من التساؤلات أبداها عم «يوسف» عن الشيخ «وليد» حسبما ينادونه فى منطقته.. «هو كل اللى أطلق لحيته يبقى إخوان؟!، ده كان بيكرههم عمى». يقول هذه المرة سيد إبراهيم الزهار، خادم المسجد المجاور لمنزل «وليد»، الذى لم يبرحه فى أوقات فراغه، «منطقة ساقية مكى كلها مافيهاش إخوان غير 4 بيوت معروفين بأسماء العائلات، ولو وليد إخوان كان شارك فى المسيرات».
«حاولت أكتر من مرة أقنعه بالانضمام للإخوان لكنه دائم الرفض ويصفهم بالإرهابيين».. يقول الرجل الذى يهوى الدفاع عن الجماعات الإسلامية، إن اختلافه الوحيد مع «وليد» فى معارضته لنشاط الإخوان «مالهوش فى السياسة خالص، أهو راح فيها والاسم إرهابى».
يتحدث الرجل السبعينى والدموع بدت واضحة فى مُقلتيه، يحاول بعضها الفكاك من أسر عزة نفسه، فينفلت بعض منها على وجنتيه وهو يتحدث عن ابنه الروحى، «وليد إحنا اللى مربيينه فى الحتة، ما يفوتوش صلاة، كان بيدى دروس قرآن للأولاد مجاناً يومى السبت والثلاثاء ويبات فى المسجد، وكان بيعاملهم معاملة طيبة، عمره ما مد إيده على واحد فيهم». الصدمة التى استقبلها الشيخ «سيد» بمجرد سماع خبر عن جريمة قتل التلميذ قطعاً لن يجرؤ «وليد» على الإقدام عليها، «ده حساس جداً عمره ما يمسك مسطرة فى إيده، بيخاف على مستقبل الأولاد».
«بيخاف ربنا».. كاد يفقد صوابه وهو يسرد سلسلة من الذكريات التى جمعته و«وليد» الطفل الذى قدم من «المنيا» برفقة شقيقيه «خالد وطارق»، فصار شاباً يافعاً ثم حصل على بكالوريوس التربية، ليضحى بمنطقتهم مدرساً حسن الخُلق يتباكى على سيرته أحباؤه «عمره ما أعطى دروس خصوصية، عايش على مرتبه، ولو باع ضميره مكانتش العيال راحت المدرسة، ولا اتعصب، وضاقت فى وشه».
الأب رحل قبل أن يرى ثمرة تربيته، فما اقترفت يداه إثماً، بحسب شهادات معظم الجيران والأقارب لمصير مأساوى متباين لعائلته بين ابنين مريضين بسبب فقر مدقع وقلة حيلة، وثالثهما متهم فى جريمة قتل، بحسب عم «سيد»: «أبوهم كان راجل صالح، بنى لهم بيت ضيق، كل واحد فيهم يتجوز، يساعد إخواته فى الشغل والجواز».
الهدوء وقلة الحيلة ربما كانا سببين كافيين، بحسب «أم جلال»، لتنزلق أقدامه فى جريمة لم يرتكبها «لو هو عيل مدقدق وابن سوق وصوته عالى، كان قدر يطلع منها زى الشعرة من العجين، لكن لأنه غلبان راح فيها يا ضنايا»، تدعى السيدة الخمسينية أنها تعلم كل شىء عن عائلته رغم أنهم قليلو الظهور والحديث «أنا اتولدت هنا، مفيش حد فى عزبة مكى مايعرفنيش، وأعرف عنهم كل حاجة، دى أمه كل سنة تطلع عمرة، وهو حج مرتين قبل كدة».
السيدة «الجدعة» تكفلت ببعض نفقات المحامى، مقررة رد الجميل بطريقتها الخاصة «والنبى لو أبيع دمى، وكل صيغتى وأستغنى عن نص عمرى علشان طيبة قلبه وأخلاقه العالية دى».
يقف على عربته ينادى على الخضار، ورغم فترة خدمته القصيرة بمنطقة عزبة مكى، التى لم تتجاوز 5 سنوات، فإن لديه دراية كافية، بحسب وصفه، بكل ما تجلبه قرية العزبة، ومعظم ما تهمس به الآذان وتتناقله الألسنة، لذا لقب ب«المخبر».. عم «فاروق شلبى» يتحدث «كله إلا وليد، مش بنشوفه إلا فى المسجد فى صلاة الفجر أو بيتدخل علشان يخلص العيال فى الخناقات».
دفاع لم يجلب له سوى الأذى، سيدة أربعينية، تقلب فى بضاعته، وعيناها تعاتبه قبل أن يتفوه فمها بأى كلمة، تعترض فى صمت، ثم تقاطع حديثه بقذف إحدى حبات الخضار فى وجهه، ثم تعنفه، تنعته بأقذع الشتائم، شجار قصير أفضى إلى سؤال «مالك بس يا ستى دى كلمة الحق، زعلانة من إيه؟!!»، «كوثر حفنى» زوجة جزار المنطقة الأشهر «عبده السنى» تعترض على وصف «وليد» ب«الغلبان»: «أكيد إخوان وموت الواد علشان تبع السيسى، يعنى هما هيتبلوا عليه ليه بس يا عم؟!»، لم يفد ردها سوى فى هجوم آخر بين ربات البيوت رداً على انتقاد ابن منطقتهم «انتى مش ناوية تجيبيها لبر والنعمة».
بين حديث جانبى وآخر، وشجار ومثيله، لم يعط خلالها أنصار «وليد» وخصومه أى مساحة للتشكيك فى خلقه، الخلاف على كونه ينتمى للإخوان من عدمه، رد الأهالى كان كفيلاً بالتأكيد أن منطقتهم لا تفرز عنفاً أو تدعمه بأى حال من الأحوال.. «أمل نبيه»، فتاة عشرينية منتقبة، لا تطمئن على ابنها سوى برفقة الشيخ «وليد»: «بيخليه يحفظ القرآن، وعمره ما جه اشتكى منه أنه بيضربه، أو غضب منه، لدرجة إنه كان بيوعظ مشايخ المسجد بعدم المشاركة فى مظاهرات الإخوان».
«شادية عبدالحكيم» تؤكد أن حادثة مقتل الطفل «إسلام» قضاء وقدر: «لأن لو وليد قتله كان خلص فيها، مش يروح المستشفى بعدها، لو حد وقع من على السلم، ولو خبطته عربية هيتخانقوا مع العربية والسلم مثلاً؟!!!»، تريح «ثريا عبدالتواب» ضميرها ببعض الكلمات عسى أن تنفعه شهادتها فى حقه «يا رب فك ضيقته، أنا مش بنام الليل من يومها، مش باكل، بصلى ليل نهار، مش بقوم من على سجادة الصلاة».. «إلحقى يا ماما الشيخ وليد» صراخ الصغير «محمود» دفع الأم للإسراع لتجد ابنها يحملق فى شاشة كمبيوتر أمامه، خبر عن ابن منطقتها، يؤكد ضلوعه فى قتل طفل لا ذنب له، تروى الواقعة وقلبها يتمزق من الحسرة «زعلت فى البداية على العيل المسكين إللى مالهوش ذنب، لكن حطيت نفسى مكانها، وعاتبت نفسى»، العتاب لم يشفع للجار العابد الناسك فى شىء: «مهما كان طيب ومؤدب بين أهله وناسه، مش مفروض يضرب العيال بالشكل ده».
«بابهم مقفول عليهم ليل نهار محدش بيسمع حسهم» يتحدث «أيمن على» عم «وليد» الذى يسكن فى نفس المنزل الذى كان يقطنه، مؤكداً أن وسائل الإعلام لم تنصف المدرس، وأفرطت فى الحديث عن الطفل ضحية إهمال المدرسة: «أساءوا سمعة عيلتنا والمنطقة كلها، ده كان عايش بقليله، راضى بيه وعمره ما اشتكى من قلة مرتب، ولا كان بيحب الدروس الخصوصية».. دفاع العم «أيمن» وجد صدى لدى «شهاب» الصبى الذى كان يمنحه «وليد» دروساً فى المنزل دون أن يتقاضى أى مقابل: «كان طيب وعنده ضمير، وغيره من المدرسين بيوقفونا بالساعات فى الحصة لما بيعاقبونا، عمرنا ما اشتكينا».
كل منهن ترتدى ثيابها السوداء، تشارك جارتهن العزيزة فى الصراخ والعويل وبعض النحيب، بعضهن يجاملن والدة «وليد» بكل ما يستطعن فعله، وكأنها فقدت ابنها للأبد: «مش حاسين إنه غايب، ده ابننا كلنا»، تقول «سعدية إبراهيم» الجارة الأم، هكذا كان يناديها «أمى التانية»، تصفه ب«الحنين وأبوقلب رقيق»، تبكى ثم تمسح دموعها فى ثيابها: «عمره ما شاف الخروف وهو بيتدبح فى العيد الكبير، كان بيخاف من الدم، وبيكفل يتامى المنطقة، منهم ولاد بنتى».
داخل المسجد الذى يلجأ إليه «وليد» بعد انتهاء عمله حتى صلاة العشاء، يفترش 3 أطفال، لا يتجاوز أكبرهم 5 سنوات، الأرض، حاملين المصاحف، الحزن بدا واضحاً على وجوههم، ينتظرون المعلم، لا يخيل لهم أنهم لن يروه ثانية: «مستنيين الشيخ وليد كان بيحفظنا قرآن ويأكلنا شيكولاته»، يقول «رامى» وهو يمسك بآخر ورقة مالية تركها له الشيخ «وليد» قبل أن يختفى عن أنظارهم: «كل ما أحفظ القرآن يدينى 5 جنيه».
«الوطن» ودّعت أقاربه وجيرانه بحى عزبة مكى، والكثير من الحكايات والروايات ما زالوا يحتفظون بها فى سراديبهم، عن المدرس الذى تسبب غيابه فى حسرة اكتنفتهم ونظرات مريبة من المناطق المحيطة باعتبارها الحى الذى شهد نشأته وبلوغه، استطلعت محل الحادثة، حيث مقر مدرسة «شهداء بورسعيد» بحى السيدة زينب، الهدوء يخيم عليها، لا أحد يتحدث عن الواقعة إلا سراً، فالجميع خائف أن يُزج باسمه فى تحقيقات النيابة لو طلبت شهادة أحدهم. «مفيش حد هنا كلهم مش موجودين»، الصوت مقبل من بعيد، لرجل مُسن يشير إلى الجنازير التى تغلق البوابات الرئيسية: «أنا خايف أخلى ابنى يروح المدرسة، دول سفاحين مش مدرسين»، يقول ولى أمر طالب بمدرسة «العبور» المجاورة لمدرسة الضحية «إسلام».
قدماه تتسابقان للوصول إلى منزله، تعثر بنا فى طريقه، كانت «الوطن» لتوها تقرع بشدة على بوابات المدرسة فى محاولة بائسة للالتقاء بأى من العاملين بها «المدرسة كلها إجازة» يقول «شهاب كمال»، تلميذ بالصف الخامس الابتدائى، زميل «إسلام» الضحية الذى مات أمام عينيه «الفصل فيه 43 واحد، كل 4 فى ديسك، والأستاذ عودنا على إنهاء الحصة، والنزول للحوش علشان نصلى، ونبعد عن الزحمة والدوشة فى الفصول».
يتذكر شبح ذلك اليوم الذى حرمه النوم لساعات بعده، يوم أن مات زميله وصديق طفولته أمام عينيه «المستر ما ضربوش ده زقه بس لأنه كان بيعمل شقاوة وصوت عالى فوقع على الأرض واتخبط فى الباب، ونقلوه للزائرة الصحية»، زميل «إسلام» ما زال يتحدث «شخصيته قوية، وبيضربنا لكن بيرجع يصالحنا»، موضحاً أن المدرس يقسو عليهم فى بعض الأحيان، ليبرئ ساحته من شغبهم الدائم، إلا أنه يحنو عليهم بين الحين والآخر، بحسب «شهاب»: «لو ضربنا أوى، بيطبطب علينا، ويجيب لنا هدايا، علشان كده بنحبه».
زميل «إسلام» تولى مهمة اصطحابنا إلى منطقة زينهم، حيث منزل الحاجة «كريمة» أو «أم إبراهيم» حسبما ينادونها، السيدة التى تحمل عهدة المدرسة منذ 20 عاماً، اضطرت إلى المكوث فى المنزل بعد إغلاق المدرسة -قبل إعادة فتحها من جديد- تجلس على سرير متهالك، تستقبلنا بحفاوة الغائب «بقالى 30 سنة فى التعليم عمرى ما حصل لى كده فى أى مدرسة»، السيدة الخمسينية شهدت الواقعة بنفسها «الظلم حرام، الراجل ده كويس، وطول عمره محترم فى حاله، بيصلى فى ميعاده، ويزكى ويصوم، ويساعد المحتاج».
لم يختلف رأى «أم إبراهيم» عن جيرانه كثيراً، تنفى واقعة الضرب من الأساس «ده وكيل المدرسة ربنا يسامحه، هو اللى ضربه بالخرزانة اللى مش بتفارق إيده، ضربة جامدة على دماغه وكمان مارضيش ينقذه فى المستشفى»، لا تنفى التهمة عن المدرس، يهيأ لها أن «وليد» المعلم الخلوق لا يجرؤ على هذه الأفعال «علشان بدقن يعنى وبتاع ربنا، اتهموه بجريمة ماعملهاش».
يقاطع حديث «أم إبراهيم» زوجها «سيد كوسة» حين أذاعت إحدى القنوات إعادة لحلقة مسجلة من برنامج يتناول قضية المدرس «وليد»، يعتليها نبأ عاجل عن إحالته للمحاكمة، تُصاب السيدة بصدمة، تتمتم بكلمات لا يفهمها إلا زوجها، تنتهى بجملة «الكلام ده ماحصلش خالص!» فيجيبها قائلاً «مكانش بينى وبين وليد إلا السلام، أثناء الأيام اللى اتناوب على حراسة المدرسة مع زوجتى، لكن الحق يتقال هو فعلاً فى حاله، بس مش بعيد يكون قتل فعلاً، لأن شكله إخوان، بس مخبى عن زمايله».
شد وجذب وشجار من نوع خاص زار منزل أسرة الحاجة «أم إبراهيم»، انتهى بها الحال إلى إغلاق التلفاز بعد أن احتدت فى الحديث دفاعاً عن الشخص الذى عرفته قبل 5 سنوات ولم يخطئ فى حقها أو زملائها مرة واحدة «كان بيحسسنا بتواضعه، ده أنا أفتكر مرة هزرت معاه وقلت له احلق دقنك أحسن يفتكروك إخوان».
أسباب الحادثة، والقاتل الحقيقى، ما زالت محل نقاش بين أفراد أسرة الحاجة «أم إبراهيم» ومعظم أهالى منطقة «السيدة زينب وزينهم، والسيدة عائشة»، رغم اقتراب الفصل الأخير من قضية «وليد».. «وكيل المدرسة عبدالعاطى، بيعمل خلافات مع كل المدرسين ويتبلى عليهم، ساب الواد يموت، علشان وليد يتأذى، وكتبنا فيه شكوى للوزارة، ومستنيين الرد» بحسب الحاجة «كريمة».
الزوج «سيد كوسة» اعتبر حادثة «إسلام» جناية نتجت عن إهمال مستشفى المقطم الذى انتقل إليه الطفل «إسلام» بعد حادثة المدرسة، فلم يسعفه حتى فارق الحياة: «دى الممرضة ضربته على دماغه وهو نايم على السرير غرقان فى دمه وبينازع فى الموت، وإدارة المستشفى قالوا لعيلته علاج ابنكم مش عندنا».. أسباب أخرى ربما شفعت ل«وليد» لدى العائلة المصدومة من الحادثة وتلتمس أى عذر للمدرس: «العيال فى السيدة مشاغبين ويتحاموا فى أهاليهم علشان المنطقة كلها عائلات كبيرة».
«طه أبوالفضل»، المتحدث باسم مدرسى السيدة زينب، جمعته الزمالة و«وليد» المتهم، لكن لا تتجاوز علاقتهما حدود الزمالة، بحسبه «كان فى حاله، وصوته مش بيطلع».. ينفى «طه» ضلوع زميله فى قتل تلميذه، ليس دفاعاً عنه، ولكن شعوره بالمسئولية عن المعلم المضطهد طول الوقت: «إحنا كمدرسين عايشين من غير مرتبات، بنشتغل فى ظروف وحشة، وكمان خلونا مجرمين».. يُحمّل الرجل الخمسينى المدرسة والإدارة التعليمية جل المسئولية: «طول عمرنا بنضرب العيال فى المدرسة، علشان نعلمهم ونربيهم، لا عيل اشتكى، ولا أهله هددونا، المرة دى بسبب الأعداد الكبيرة فى الفصول وغياب الرعاية الصحية عن إسعاف التلاميذ، حصل اللى حصل، دى مسئولية المدرسة، والتعليم أبوعصايا هو اللى طلع لنا كبار المهندسين والأطباء والعلماء».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.