فشل الخطاب الدينى المعاصر على مدى ثمانين سنة فى ظل ما يُعرف بالتيار الإسلامى فى استجلاب بركة السماء على المصريين؛ لأنه خطاب يجمع النقائص الأربع وهى «الشكلية والعنصرية والإقصائية والرهبانية». (1) أما الشكلية التى وقع فيها الخطاب الدينى المعاصر فقد تسببت فى اختصار الدين فى المظاهر والشكليات والأسماء والصفات حتى صار العقل الباطن عند أكثر المصريين يرى استحقاق صاحب اللحية الطويلة أو صاحبة النقاب لإمامة المصلين والمصليات وتوجيههم دينياً دون اعتبار كبر السن أو فقه العلم، كما صار العقل الباطن معتقداً بشرعية البنوك والشركات والمدارس والأحزاب لمجرد وصفها بالإسلامية، ونجح هذا الخطاب الشكلى فى تشكك المصريين فى بنوكهم وشركاتهم ومؤسساتهم التى طالما تعاملوا معها وفقاً للأصول المرعية. (2) وأما العنصرية التى تقوقع فيها الخطاب الدينى المعاصر فقد تسببت فى زيادة الفجوة بين المسلمين وبين غيرهم، حيث غرز هذا الخطاب فى المسلمين المصدقين له صفة الاستعلاء على غيرهم واحتكار الجنة فى الآخرة وعقيدة أسلمة المجتمع بالقوة، فبادلهم المخالفون بوصفهم بالإرهابيين، مما أوسع هوة الخلاف. (3) وأما الإقصائية التى اعتمد عليها الخطاب الدينى المعاصر فقد تسببت فى بث العداوة بين المسلمين وتشتيت تعاونهم، وإفقاد الثقة فى أنفسهم؛ لاعتماد هذا الخطاب على محاربة التعددية الفقهية وفرض وصاية الرأى الواحد واتهام المخالفين له بالعلمانية والفسق والشذوذ فى القول. (4) وأما الرهبانية التى عاش فى عباءتها الخطاب الدينى المعاصر فقد تسببت فى إبعاد المصريين عن المنافسة فى إعمار الأرض وتطوير الحضارة باعتبار ذلك من أعمال الدنيا الزائلة. أما الدين لمن أراد التقرب إلى الله فعليه بالعبادات من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة، وكأن رسالة السماء لم تكلِّف الإنسان بإعمار الأرض كما قال تعالى: «هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» (هود: 61). استمر هذا الخطاب الدينى بنقائصه يقطع أرحام الشعب المصرى ويفسد فى انتمائه لوطنه حتى كشف اللعبة فقام بثورته التصحيحية فى الثلاثين من يونيو 2013م ولسان حاله ينطق بقوله تعالى: «وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِِ» (الأنفال: 39)، فجعل ينادى بخطاب دينى يتسم بالحنيفية السمحة السوية استجابة لأمر الله تعالى فى قوله: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (الروم: 30)؛ لأن الحنيفية هى الجامعة للمصريين فى لُحمة واحدة بقواعد الموضوعية والتسامح دون إقصاء أو رهبنة مهما اختلفت مللهم ومذاهبهم الدينية، فالحنيفية تطلق عنان المنافسة لكل مصرى فى علاقته بربه؛ لأنها تعتمد على تحكيم الضمير، وطمأنينة القلب بالجهد الذاتى أو بالعصامية من غير كهنوت، وهى منحة السماء فى تعايش أهل الملل المختلفة فى سلام، كما قال تعالى: «ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً» (النحل: 123)، وقال سبحانه: «وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً» (النساء: 125)، وهذا ما أكده الرسول، صلى الله عليه وسلم، فى وصف رسالته فيما أخرجه الطبرانى عن أبى أمامة أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «بُعثت بالحنيفية السمحة»، وأخرج البخارى تعليقاً والإمام أحمد عن ابن عباس أن النبى، صلى الله عليه وسلم، سُئل: أى الأديان أحب إلى الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «الحنيفية السمحة». قال ابن سيدة فى «محكمه»: الحنيف هو المسلم الذى يتحنف عن الأديان، أى يميل إلى الحق بذاته. وقيل: هو المخلص. وقيل: الحنف الاستقامة، وأصل الحنف الميل، وإنما قيل للمائل أحنف تفاؤلاً بالاستقامة. والسمحة يعنى السهلة، ولهذا يُقال مكان سمح أى سهل. انطلق الشعب المصرى بعصاميته الدينية أو بحنيفيته السمحة التى يرضى بها كل مصرى ضميره، ويطمئن بها قلبه الذى يلقى الله به فرداً، فلم يعبأ بخطاب المعطلِّين الذين فرضوا أنفسهم على مدى ثمانية عقود أوصياء دينيين على المصريين يحرِّمون عليهم ما يرونه حراماً، ويحلون لهم ما يرونه حلالاً، فاستعصم المصرى الأصيل بالدين الحنيف الذى يجعله وفيَّاً بالتزاماته الإدارية والرضائية فى عقوده المعلنة وعهوده الظاهرة، كما يفكه عن الآخرين دينياً لينفرد كل إنسان برابطة مع الله ينافس فى إخلاصها ونقائها سائر البشر حتى أصحاب الخطاب الدينى أنفسهم، ولهذا قال النبى، صلى الله عليه وسلم، لوابصة بن معبد فيما أخرجه أحمد بإسناد حسن: «استفت نفسك، استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك». ومنذ هذا اليوم الميمون الذى انتبه فيه الشعب المصرى لإحياء منحة السماء بجعل الدين لله وإعلاء صفة الحنيفية فى الخطاب الدينى التى أعادت للمصريين سيادتهم على أنفسهم والتى كان الأوصياء قد سلبوها منهم، والسماء تنهمر عليهم ببركاتها، فهذا فضل الله بإجماعهم الحكمى على رئيسهم، وهذه نعمة الله فى تأليف قلوبهم على وطنهم، وذاك عطاء الله فى اهتدائهم لمشروع ازدواجية مجرى قناة السويس، وتلك بركة الله فى استجابة العالم لندائهم فى دعمهم ضد الإرهاب ومن أجل الإعمار فى المؤتمر الاقتصادى بأرض السلام من مدينة شرم الشيخ على مدى أيامه 13-15 مارس 2015م. والقادم من بركات السماء أكثر وأكثر، وحسبنا هذا الخلود القرآنى: «ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ» (يوسف: 99).