كانت آخر ليلة يقضيها مع زوجته فى منزله المتواضع بمنطقة عزبة النخل التابعة للمطرية. الشاب باسم عيد ثابت إبراهيم، عامل جمع القمامة الذى لم يكمل عامه العشرين، خرج على قدميه يسعى فى سبيل الرزق وعاد محمولاً فى صندوق إلى أهله بعد أن قتلته عبوة ناسفة كانت موضوعة فى أكياس القمامة على شريط محطة الترام بميدان المطرية. كعادته خرج من منزله مع غروب الشمس، يجهز «عربته الكارو» ويعلق بها حماره فى المقدمة ويخرج باحثاً فى تلال القمامة عن لقمة عيش أو أشياء لها قيمة تباع وتشترى، ودّع «باسم» زوجته الحبلى وخرج رغم إصرار أهله على البقاء فى هذه الليلة ليقضى يوم الإجازة المقدسة «الأحد» معهم فى المنزل، رفض الشاب وسعى نحو رزقه وقدره. كانت مهمته «التفتيش» فى صناديق القمامة حتى يحصل على ما بها من بلاستيك ومواد صلبة وبقايا طعام حتى يأخذها ويبيعها كعادته فى كل يوم، لكن هذا اليوم كان مختلفاً، كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة مساءً، حين وصل الشاب إلى ميدان المطرية وبدأ يفتش فى صناديق وأكياس القمامة، لفت انتباهه كيس أسود كبير على قضبان قطار الترام، هرول إليه عسى أن يجد به صيداً ثميناً، تحسس الشاب الكيس بأصابعه، وبمجرد أن حاول فتحه انفجر الكيس فى وجهه، فلم يكن إلا قنبلة وضعها طيور الظلام، قتلت الشاب الباحث عن رزقه وقتلت حماره -الذى كان يجر السيارة «الكارو»- فى الحال. لقى «باسم» ربه فى لحظة غدر لم تخطر على باله، وتحول جسده النحيل إلى أشلاء. ويروى جبل فخرى، شاهد عيان وأحد زملاء باسم: «كانت الدنيا ليل وكان باسم ماشى بيلقط رزقه من الشارع، شفته قبل ما يموت بلحظات، وبعدها سمعت انفجار كبير وضوء ظهر فجأة على شريط المترو؛ جريت على مكان الانفجار لقيت باسم اتفجر ومعالمه اختفت، لو مكنتش معاه فى اللحظة دى مكنش حد هيتعرف عليه». فى المنزل رقم 8 شارع خلف بمنطقة «الزرايب» فى عزبة النخل بالمطرية، نصبت أسرة باسم «صواناً» للعزاء منذ الليل، بعد أن تأكدوا من خبر وفاته عن طريق أحد مندوبى الشرطة الذى جاء إلى المنزل وأخبرهم بأنه مصاب فى المستشفى ولم يقتل، حينها فزع الأهل وهرولوا إلى المستشفى ليجدوا ابنهم يرقد جثة هامدة وبدون معالم واضحة. أمام كنيسة مارى جرجس فى منطقة الزرايب بعزبة النخل وقف الأهل والأقارب والجيران فى انتظار قدوم جثمان «باسم» من مشرحة زينهم إلى الكنيسة ليقيموا عليه الصلوات، وأمام باب الكنيسة يقف صبرى عيد إبراهيم، شقيق الضحية، فى حالة انهيار، قائلاً ل«الوطن»: «واحد من الشرطة خبط على باب البيت بالليل متأخر خرجت قال لى أخوك مصاب فى مستشفى المطرية تعالى شوفه، رحت المستشفى لقيت أخويا ميت». يصمت الشاب الثلاثينى ويضيف بصوت باكٍ متقطع: «أنا قلت له يا باسم بلاش تطلع النهارده بكرة صابح الأحد هنقضيه مع بعض فى البيت وسط إخواتنا، فرفض وقال أنا هطلع ساعتين أسترزق فيهم وأرجع نتقابل تانى، خرج أخويا ومات فى التفجير». يشير «صبرى» إلى أن المنطقة التى قتل فيها أخوه شهدت انفجار عدد من القنابل منذ فترة، وقال: «إحنا ناس أرزقية بنطلع نشتغل باليومية حرام إننا نخرج من بيتنا ونرجع ميتين، وأخويا ملوش ذنب عشان يموت». يتحدث أخو الضحية عن ذكرياته معه قائلاً «كان جدع وشهم وكانت الناس كلها بتحبه، بس هنقول إيه، الله يرحمه، زى المصريين اللى بيموتوا كل يوم فى ليبيا وفى الشارع من الجيش والشرطة، أخويا مكنش ليه فى السياسة ولا الكلام الفاضى ده، بعد ما خرج من التعليم فى سنة رابعة ابتدائى وهو شغال معانا فى «النقضة»، يعنى نقض الزبالة وفرز الأكياس والبلاستيك والورق والكرتون وبيعها فى آخر اليوم بخمسين أو أربعين جنيه». أسرة باسم مكونة من 11 فرداً، خمسة أولاد ذكور وأربعة بنات، خلال هذا العام لقى اثنان من إخوته الذكور مصرعهما فى حوادث متفرقة، ثم قتل باسم غدراً، ويقول أخوه: «إحنا غلابة ملناش فى المشاكل بس هنعمل إيه نقعد منشتغلش ونموت من الجوع، الدولة مبتوفرش فلوس لينا ولا شغل واتعلمنا وملقيناش وظيفة، أنا طلعت من رابعة كلية تجارة جامعة عين شمس ومش لاقى شغل». فى ساحة الكنيسة -التى لا تزال تحت الإنشاء- فى انتظار جثمان «باسم»، وقفت زوجته التى لم تكمل عاملها العشرين كريستين خيرى، لتروى اللحظات الأخيرة التى جمعتهما قبل خروجه الأخير للموت: «كان إمبارح قاعد معانا بيشرب الشاى وبيضحك وفرحان طول الليل، كان متعود يطلع المغرب من البيت ويلف يسترزق لحد الفجر ويرجع ينام، يوم الحادث خرج من البيت عادى وسمعنا خبر وفاته، وعرفنا إنه فى مستشفى المطرية». وتنهار «كريستين» باكية: فى بطنى ولد عنده ست شهور اتفقت أنا وباسم هنسميه «كراس»، لكنه مات قبل ما يشوف ابنه، كان فرحنا فى 20/9 اللى فات، ملحقتش أتهنى بيه ولا لحق يتهنى بينا. وتمضى داعية: «منهم لله اللى قتلوا جوزى ويتّموا ابنى، حقنا عند ربنا، وربنا يرحمه». ويقول مرزوق مالك إبراهيم، خال الضحية: «حرام شاب زى الورد يموت بالشكل دا، أنا سمعت الخبر بالليل وجيت من الصعيد على القاهرة عشان أحضر دفنته، أنا بقول حسبى الله ونعم الوكيل ذنبه إيه ده؟، كان شاب جدع ملوش غير بيته وشغله، لا ارتكب ذنب ولا حاجة، لا كفار ولا يهود يرضوا باللى بيحصل فينا دا، حرام». بينما تلتقط سامية عيد إبراهيم، شقيقة باسم، طرف الحديث: «شفت أخويا إمبارح قبل ما يطلع يشتغل، كان بيضحك وكان فرحان، منهم لله اللى قتلوه، ربنا ينتقم منهم، ومن كل واحد بيقتل الناس اللى ملهاش ذنب». ويشير عزت بشرى، زميل باسم وجاره، إلى أن أسرة الضحية فقيرة جداً، وزوجة باسم لا عائل لها، مطالباً الحكومة بتوفير معاش استثنائى لها، حتى تستطيع أن تعيش وتربى ابنه الذى تحمله فى بطنها، كما أن والده رجل مسن ومريض. لحظات صمت خيمت على ساحة الكنيسة، قبل وصول جثمان «باسم»، ومع سماع صوت سيارة نقل الموتى من مشرحة زينهم، انهارت الأسرة والأقارب والجيران واستغرقوا فى البكاء، وصل «التابوت» الذى يستقر فيه الضحية، ودخل إلى الكنيسة لأداء الصلاة عليه، بينما أحاط به أعداد كبيرة من الأحباء وأهالى المنطقة يبكون رحيل الشاب الطيب، وسط دعوات أطلقها الحضور بصوت عالٍ تضرعوا فيها إلى الله ليغفر للضحية ويرحمه. خرج «التابوت» من الكنيسة وسط صيحات وبكاء الأهل وعويل الأقارب، ورفع المشيعون علم مصر مكتوباً عليه «باسم شهيد مصر والكنيسة»، ورددوا هتافات معادية للإرهاب، منها «الإرهاب عدو الله»، وطالبوا بالانتقام والثأر لدم فقيدهم، حتى وصل باسم إلى مثواه الأخير فى مقابر العائلة بمنطقة الخصوص القريبة، تاركاً لنا «الإرهاب الغاشم» يقتل العزل والمدنيين بلا ذنب.