«ما أصعب لحظات الضعف، يكفيك ضعفاً أن تحتاج».. ما زلت أذكر هذه العبارة جيداً. كتبها لى أحد الضباط البحريين فى مدينتى الساحلية عندما كنت أدرس فى الجامعة. لا أعتقد أننى نسيتها يوماً، بل ربما شكّلَت هذه الكلمات القليلة كثيراً من ملامح حياتى وشخصيتى، فقد أمضيت السنين أختبئ من شبح الاحتياج. والآن يا صديقى، هل سألت نفسك أنت أيضاً: هل يحكم الاحتياج حياتك ويتحكم فى قراراتك أم لا؟ هل تمسكك ظروفك الحياتية من ذراعك التى تؤلمك دوماً وتجعلك تدير دفة قراراتك من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال رغماً عنك، دون أن تنبس أنت ببنت شفة؟ هل تخرج لك لسانها كلّما وُضِعْتَ أمام خانة الاختيار ولم تجد بديلاً عن الرضوخ لضعفك واحتياجاتك؟ لا أعرف حقاً مدى صمودك أمام قوة هذه الأشياء التى يؤلمك تحدّيها، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بهؤلاء الذين يساوون عندك الدنيا، وتتضاءل قيمة الأشياء أمامهم لدرجة أن تصبح بلا قيمة. أعرف هذا الشعور جيداً، ولكنه دائماً يجعلنى أتساءل: هل الاحتياج غريزة إنسانية أساسية؟ ونقاط الضعف هذه، هل يصعب تحدّيها حقاً أم أنها قابلة للترويض؟ شاركتنى صديقة مؤخراً قصة زوجها، عندما قالت لى: هو الآن يحاول تحقيق حلمه القديم، فقد كان متفوقاً فى الجامعة بشكل مذهل، لدرجة أن إحدى الجامعات البريطانية أعطته منحة كاملة لدراسة تخصصه الدقيق فى الشبكات الإلكترونية كطالب وحيد من تركيا، ورغم أنه كان حلم حياته فإن أمّه واصلت البكاء ليل نهار حتى لا يذهب ويبعد عنها، فقد كانت متعلقة به حد الجنون. وتخلى هو عن حلمه فى مقابل إرضاء قلب أمه. هى لم تستطع مقاومة احتياجها إلى قربه، وهو لم يستطع مقاومة رغبته فى إسعادها، وبعد أن توفاها الله راوده حلمه القديم، وما زال يسعى ليكمل دراسته فى تلك الجامعة إلى الآن. قل لى يا صديقى: هل مررت أنت أيضاً بتجربة مشابهة؟ كيف تتخذ قراراتك؟ هل اضطررت مثله إلى التخلى عن شىء أو إلى فعل شىء تحت ضغط الاحتياج ونقاط الضعف هذه التى تملأ حياتنا جميعاً؟ أعتقد أن مثل هذه المواقف يمكن تطبيقها على أشياء كثيرة فى حياتنا، ليس فقط فى قراراتنا الشخصية، وإنما فى قراراتنا العملية أيضاً، مثل تخلى كثير منا عن طموحه وحُلمه وموهبته تحت ضغط احتياجاته المادية، فلا يصبر على تحقيق حُلمه، مع علمه أن الطريق إلى الهدف لم يكن يوماً مفروشاً بالورود. دعنا نتفق إذن على أن احتياجاتنا ونقاط ضعفنا قد تكون مارداً تصعب السيطرة عليه، ولكننى أومن جداً بأنه يمكن ترويضه. هل تعرف أنك تستطيع أن تحكم كل احتياجاتك بتعلّمك لقدرة إنسانية واحدة؟ فقط عليك أن تتعلم مهارة «التوقُّف»، تعلّم كيف ومتى وعند أى حدّ يلزمك أن تقول: «لا، كفى».. وقُلها بلا تردد، حتى إن كانت احتياجاتك هذه إلى أشياء بسيطة كالاحتياج إلى سماع صوت شخص مثلاً، أو التحدث إليه. تيقّن يا صديقى أن هذه الأشياء البسيطة ستتحوّل حتماً إلى أشياء كبيرة مع الأيام. وعندما تأتى لحظة القرار، أياً كان حجم الأمر الذى ستتخذ فيه قرارك، عليك فقط أن تقوم بهذه الخطوات، حتى تصل إلى برّ الأمان، النفسى على الأقل: - تجرّد من كل الأشياء التى تخرجك عن اتزانك الانفعالى، كالأشياء التى تسبب لك ألماً عظيماً أو سعادة عظيمة، فأنت فى هذه اللحظة لن تتعامل بعقلك يا صديقى، أنت حتماً ستتصرف باندفاع، وهو ما لن تروقك نتيجته فى النهاية. - خذ قرارك منفرداً ما دمت ستتحمّل نتيجته منفرداً، وخذ قرارك مع طرف أو أطراف أخرى ما داموا سيتحمّلون معك تَبِعات هذا القرار، وتذكّر أن صاحب القرار دائماً هو من سيتحمل نتيجته فى النهاية. - أعطِ نفسك المهلة الكافية لمراجعة قرارك أكثر من مرة قبل إعلانه، فإعلان القرار يعنى الالتزام به بشكل أو بآخر. - تحرّك فوراً فى اتجاه تنفيذ القرار منذ لحظة إعلانه، وتيقّن أن التأخير لن يفيدك فى شىء، بل قد يعطى الفرصة لأطراف أخرى لتشويش أفكارك، فتعود إلى حالة الصراع من جديد. أما الخطوة الأهم فى كل هذا، فهى أن تتحكم فى احتياجاتك. وقبل أن تسألنى: «كيف؟»، سأقول لك: ببساطة، اصنع ملفاً فى عقلك واجعل فيه كل نقاط ضعفك واحتياجاتك التى تتحكم فى أفعالك وانفعالاتك، وقرر أن تروّضها فتحملها قدر احتمالك فقط، وألغِ منها ما تقدر عليه مع الأيام، وتيقّن أنه كلما قلَّت محتويات هذا الملف ازدادت مساحة حرّيتك، وشعرت باستقلاليتك، وتحمّلت أكثر نتيجة قراراتك. أنت تستحق لذة هذه الحرّية الداخلية يا صديقى، فاعمل من أجلها، وتيقّن أن الحصول عليها ليس بالأمر المستحيل.