بعد أن احتسينا كوبين ساخنين من الشاى بالنعناع الطازج رُحت أراقب المطر يضرب الأرض من حولى، وراح صديقى الطيب يستنفر أفكارى من جديد -كعادته- ورمى سؤاله بهدوء: عزيزتى، هل أنت سعيدة حقاً كما يبدو عليك؟ كان برد إسطنبول يزمجر فى آذان الشوارع، واستسلم رواد ميدان «تقسيم» الشهير الذين حاصرهم المطر لبائعى الشماسى الملونة المنتشرين فى كل مكان، أما أنا فاخترت أكثرها زهواً وامتلاءً بالحياة، وما إن رفعتها فوق رأسى حتى غلبنى الابتسام وتنفست بعمق، وقلت: رغم كل برد الشتاء، فهذه الألوان الزاهية تدفئنى. استدرت إليه قبل أن يكرِّر السؤال وواصلت حديثى: المتعة الحقيقية تتمدد فى أعماق النفَس الذى تنفسته الآن تحت مظلتى، فأنا الآن تحت هذه المظلة أشعر بالأمان من شىء ما وبمساعدة شىء ما، ورأيى أن كل ما فى الحياة ينطبق عليه نظرية الأمان هذه. ضحك بصوت مسموع، وقال بلهجته الصعيدية التى أحبها: كِيف يعنى؟ قلت له: يا صديقى، الأمان سر المذاق الحلو للحياة، ونتيجته الطبيعية الشعور بالراحة والرضا، وهما من أسرار السعادة. أتذكّر هذا الحديث الآن مع عودة الشتاء لنافذة بيتى من جديد، فأعيد على نفسى السؤال بعد أن ترك عام آخر بصماته على قلبى وعقلى بكل ما عشته فيه: هل حقاً هذه النظرية صحيحة؟ نحن يسكننا الخوف. هذا الضيف غير المرحب به، كلما واجهنا الحياة بكل ما فيها من قسوة ومعاناة ووحدة واحتياج، فنركض إلى غرفنا ونحلم بالأمان، بهذا السقف الذى سنحتمى به من تقلبات الأيام والذى سنعرف معه طعم القوة والاطمئنان، فنمنحه ارتفاعاً ونصنع له سُمكاً ونعطيه لوناً، وتتغير هذه المواصفات حسب حال كل منا، فكيف يتصور أغلبنا سقف الأمان هذا؟ الارتفاع غالباً، هو هذا المنصب أو الموقع الاجتماعى أو الشهرة التى نسعى إليها ونتخيل أنها ستحمينا من مكر الدنيا والناس. والسُّمك هو هذا الغطاء الوثير الذى ننسجه من مدَّخَراتنا المادية فنسعى للمال بكل ما أوتينا من قوة، ونتصور أننا بقدر تراكُم الأرقام نشعر بالأمان. أما اللون، فمتوقف على عدد المحيطين بنا من المعارف أصحاب النفوذ والسلطة. هذا الجسر الذى نصنعه من العلاقات الاجتماعية لتصل بنا إلى أهدافنا من أقصر الطرق، فهم مفاتيح الأبواب المغلقة، وكلما زادت المفاتيح فى يدك تصورت أن الاطمئنان فى جيبك. هذه هى المعادلة المتعارَف عليها إذن، ولكن هل هذا هو الأمان حقاً؟ هل هكذا سنصبح أكثر راحة وسعادة فى حياتنا؟ إن كانت هذه هى رغباتنا فهى مشروعة، بشرط ألا نضحّى بكل شىء من أجل الوصول إليها، وإلا فنحن حقاً تعساء بها، لأنها سوف تتحكم فينا وتسحق إنسانيتنا كلما سعينا نحو هذا السقف، وكلما ضعفنا وفقدنا تَحَكُّمنا فى رغباتنا واحتياجاتنا. فمن يطلب المنصب والأضواء بأى ثمن غالباً ما يسقط فريسة لتوحُّشها وزيف المحيطين بها، فيتغير هو قبل أن يغيِّر فيها، فالشهرة والغرور كثيراً ما يتلازمان، وحينما تشبّ نار الغرور فى القلب تموت النفس الطيِّبة وتفقد طعم الحياة الحلو، وتصبح أنت فريسة للآخَرين من هواة تَصَيُّد الأخطاء، وتعانى اهتمام الناس الزائف وتفقد حريتك شيئاً فشيئاً، فتعيش حياتك خائفاً من كلام الناس وأعيُنهم وكاميراتهم، وسيُنتزع منك رغماً عنك حجاب الأمان. أما من يطلب المال ويصبح له هدفاً أوحد يسعى إليه فغالباً ما يعيش حارساً عليه إلى أن يسقط دونه، وإن تَمتَّع به حمل كل رقم يضيفه إلى رصيده سقوط أحد المقربين إليه فى دائرة الشك. يا عزيزى ليس لنا من كل ما نملك إلا ما سنأكل ونشرب، وما عدا ذلك ذاهب لا محالة لآخر ينتظره، فهل أنت آمِن الآن مع هذا الشك الذى يحاصرك ويأكل مشاعرك تجاه الآخَرين؟ أما هذا الذى يتسلق وينافق ليصل إلى أصحاب القوة والنفوذ، فهو كالذى يجلس وسط الزحام وحيداً، فلن يكونوا سوى أسماء فى دفترك، لن يعمروا قلبك يوماً، ولا تنسَ، فيوماً ما ستسقط الأقنعة، وحينها ستأكل نار المصالح إذا تضاربت كلَّ هذا الذى بنيته، وسيرحل عنك مفتاح الأمان الذى تخَيَّلتَه. نظرية الأمان أبسط من كل هذا لو تعلمون، الأمان الحقيقى بداخلنا نحن، فالسقف لم يكُن بالخارج يوماً، ولم يصنعه مال أو سلطة أو معارف، فقط يخيطه إيمانك بنفسك، وبقدراتك، وبإنسانيتك، كلما نظرت فى المرآة وابتسمت فى وجه هذا الذى أمامك فأنت حقًّا تحترمه وتقدره. لن تليق بك عباءة الاحتياج يوماً، فهى دائماً ممزَّقة، لا تستر عيباً، ولا تدفئ برداً. وتيقن أنه سيرتفع سقفك قدر ما ترفَّعت بأخلاقك عن هذا القبح الذى يحيط بك، وسيزداد سُمْكُه كلما أطعمت نفسك وأهلك بالمال الحلال الذى لم يُنتزع رغماً عن أحد، وسيتلوَّن هذا السقف بعدد القلوب التى تجاورك وتساندك دون مقابل. فالأمان منك وحدك.. لا مِن سِوَاك.