كان حتى عامه الخامس والعشرين لا يقرب الصلاة ولا حتى يحفظ آية من آيات القرآن الكريم، ولم تكن له علاقة بالدين سوى أن اسمه يدل على أنه مسلم.. وكان قد تخرج فى الجامعة منذ أكثر من ثلاثة أعوام، وبعد أن حفيت قدماه من البحث عن وظيفة تتناسب ومؤهله انخرط فى أعمال هامشية (مرة سائق ميكروباص بدون رخصة، ومرة فرد أمن فى شركة أمن، ومرة بائع سرّيح بساعات وولاعات وأقلام صينية... إلخ)، حتى انتشله من حالة الضياع واللاأمل فى المستقبل تلك أحد أصدقائه الذى ساعده فى العمل معه فى إحدى الشركات الكبرى التى يمتلكها رجل أعمال ضليع فى جماعة الإخوان.. وأيامها كادت سعادته، وهو يتسلم مهام وظيفته التى تتناسب ومؤهله وذات الراتب المحترم، بالغة.. وأيامها شعر أن المستقبل بدأت زهوره تتفتح.. وحلم بالعروسة والشقة، بل وبالسيارة، بل وبالستر الذى لم يكن يجرؤ على أن يحلم به.. وكان ذلك قبل عام تقريباً من ثورة 25 يناير 2011.. وأيامها لاحظ رؤساؤه فى العمل، بل ولاحظ رجل الأعمال صاحب الشركة، أنه لا يصلى ولا يعرف عن دينه إلا القشور الرقيقة للغاية، فكان بالنسبة لهم صيداً ثميناً.. فى البداية جذبوه معهم إلى الصلاة (وهذا شىء حميد للغاية بالطبع)، ثم رويداً رويداً بدأوا يلقنونه تعاليم حسن البنا ووصاياه وتعاليم سيد قطب وأئمة الجماعة، ولم ينسوا أن يلقنوه فلسفة الإمام ابن تيمية المتشددة وجميع ما يمت لذلك بصلة، وأفهموه وأقنعوه حتى الثمالة أن كل ذلك هو الدين الحق، وأن هذا الذى حشروه حشراً داخل رأسه وقناعاته هو الإسلام الحق.. «هو مجتمع كافر وحكام كفرة يحكمون بغير شرع الله.. وهو مجتمع مرتد وكافر يعيش فى ضلالات الإعلام والعولمة.. نريدها دولة إسلامية من المشرق إلى المغرب تعلوها راية لا إله إلا الله محمد رسول الله التى أهال عليها التراب أولئك الحكام الفجرة وهذه الشعوب الكفرة». أيامها اعتنق عن قناعة مذهبهم، وانغمس فى قراءة كتب وكتيبات مشايخ التكفير.. وأيامها كان راتبه يقفز قفزات متتالية حتى أصبح يتقاضى راتباً شهرياً أكثر بكثير مما كان يحلم به فى أحلام اليقظة عندما التحق حديثاً بهذه الوظيفة.. وأيامها استدعاه رجل الأعمال صاحب مجموعة الشركات وناوله مكافأة مالية مذهلة وهو يناوله مجموعة كتب حسن البنا وسيد قطب وغيرهما من أئمة الجماعة مرفقاً معها كتاباً بقلم صاحب الشركة رجل الأعمال عن فتاوى ابن تيمية، خاصة تلك الداعية إلى العنف وإلى سفك الدماء فى سبيل إقامة دولة إسلامية.. وأيامها التهم كل تلك الكتب التهاماً.. وأيامها كانت الآلاف تنهال عليه مكافآت وحوافز.. وأيامها حجز الشقة وخطب العروسة.. وأيامها قامت ثورة 25 يناير 2011 وقد كان عضواً فى الجماعة أو ما يطلق عليهم شباب الجماعة.. وأيامها كان نشاطه مكثفاً هو وأمثاله من أعضاء الجماعة وشبابها من أجل إنجاح الثورة وإسقاط نظام مبارك.. وبعدها عاش فى كنف الجماعة وفى معية رجل الأعمال الشهير الإخوانى الذى أصبح عضواً بارزاً فى مجلس الشعب.. وأيامها تزوج وذاق حلاوة الزواج.. وأيامها، وبعد أن قفزت جماعة الإخوان وسطت على الثورة وأصبح محمد مرسى هو الرئيس وجماعة الإخوان هى الحزب الحاكم، كانت نشوته لا حدود لها ومكاسبه الشخصية مضاعفة.. وأيامها، وبعد أن قامت ثورة 30 يونيو (الثورة الشعبية الحقيقية) على حكم مرسى وجماعة الإخوان، اعتصم مع من اعتصموا فى ميدان رابعة مطالبين بعودة الشرعية وعودة عصر الإخوان.. وأيامها، وبعد فض اعتصام رابعة ومع أنه شارك فى معركة فض الاعتصام مع ميليشيات الإخوان، فإنه لم يصبه أى سوء واستطاع الهرب، بل ولم تحُم حوله أى شبهات أمنية.. وأيامها، وبعد سجن رجل الأعمال الإخوانى صاحب مجموعة الشركات، حلق ذقنه وعاود العمل فى الشركة وهى تحت الحراسة.. وأيامها، وبعد موجة التفجيرات وحرب الإرهاب فى سيناء، كان عضواً إخوانياً تكفيرياً نائماً أو خامداً.. وأيامها كان فريسة سهلة لأن تجنده ميليشيات الإخوان السرية وكتائب أنصار بيت المقدس.. وأيامها، وكان قد أنجب ابنه الرضيع ويمتلك الشقة والزوجة والسيارة وراتباً محترماً، لعب مشايخ تلك الجماعات برأسه الضئيل.. وأيامها، وبينما نقودهم تنهمر عليه، آمن إيماناً راسخاً بفكرة الجهاد المسلح لإعادة الشرعية ولإقامة دولة الإسلام الكبرى.. ومنذ شهور قليلة تم تكليفه، بما أنه غير مراقب وبعيد عن الشبهات، بزرع عبوة ناسفة فى شارع الهرم، وعلموه كيفية تفجيرها بالموبايل.. وأيامها قام بالمهمة عن قناعة وعلى خير وجه.. وأيامها كان يقف بعيداً بينما خبير المفرقعات يحاول تفكيك العبوة الناسفة. وقام، بدم بارد وبقناعة تامة، بتفجير العبوة بالموبايل وعن بُعد لتطيح بالضابط الشاب.. وبعدها قام بعدة عمليات مشابهة، وفى كل مرة كانت الدماء الكافرة لهؤلاء المرتدين الكفرة تسيل وأشلاؤهم الفاجرة والكافرة تتطاير، وكان داخل نفسه يهلل ويكبر وهو مقتنع تماماً بأنه بما يفعل يجاهد فى سبيل نصرة دين الله.. ومنذ أسابيع قليلة أوقعه حظه وهو يتابع الأحداث على موقع اليوتيوب على مقاطع شدّته وجذبته لأحاديث وتفسيرات الشيخ الراحل الإمام محمد متولى الشعراوى للقرآن الكريم.. وجد نفسه يسمع كلاماً غريباً غير الذى سمعه من رجل الأعمال الإخوانى صاحب مجموعة الشركات، وغير كل الذى سمعه من أعضاء الجماعة وغير الذى سمعه فى اعتصام رابعة، وغير الذى قرأه فى كتب أئمة الجماعة وأئمة التكفير، وغير الذى سمعه من مشايخ الفضائيات ومشايخ التكفير والعنف.. انزعج للغاية فى البداية، إلا أنه لم يتمالك نفسه من مواصلة البحث عن صحيح الدين فى حلقات الشيخ الشعراوى والشيخ الغزالى والشيخ على جمعة وأمثالهم.. أصابه الذهول وقد تلوثت يداه بالدماء الزكية الطاهرة البريئة، هرول وسارع إلى رجل صالح متفقه فى الدين وبعيد عن أضواء الفضائيات، يسكن فى نفس منطقة سكنه، ويصلى فى نفس المسجد الذى يصلى فيه، ويعطى دروساً مجانية فى صحيح الدين لرواد المسجد بعد كل صلاة.. اشتد عليه الذهول وهو يستمع منه إلى صحيح الدين الإسلامى وإلى حرمة الدماء وتوصيف صحيح الدين للمفسدين فى الأرض.. انزوى على نفسه فى غرفته، لا يطيق أن ينظر إلى وجهه فى المرآة.. لا يطيق أن يرى أصابع يديه التى زرعت الموت فى أماكن عديدة وسفكت الدماء الزكية الطاهرة البريئة.. أخذ يهرول إلى المكتبات ويشترى الكتب والمراجع التى أوصاه بشرائها شيخ المسجد الرجل التقى الفقيه الصالح للوقوف على صحيح الدين من القرآن والسنة المؤكدة.. شحب وجهه، وانهمرت الدموع غزيرة من عينيه وهو يستكشف كيف كان مضللاً وضالاً.. ألهبته سياط تأنيب ضميره وهو يُحصى كم نفساً بريئة قتلها بمتفجراته.. كم أماً أثكلها.. كم طفلاً يتمه.. كم زوجة رمَّلها.. تلاحقت أنفاسه التى أصبح يكرهها.. اضطرب وجدانه الذى كان أجوف.. تراءت له أشلاء ضحاياه وهى تتطاير ودماؤهم وهى تسيل.. ذهب بعيداً فى الصحراء وهو يحمل حقيبة متفجرات كانوا قد سلموها له لتفجيرها فى إحدى محطات المترو.. أخذ وهو فى الصحراء وحده يلف المتفجرات حول جسده وأشلاء ضحاياه تتراءى أمام عينيه ورائحة دمائهم الطاهرة تزكم أنفه وصيحات أمهاتهم الثكالى وأبنائهم اليتامى وزوجاتهم الأرامل بأن حسبنا الله ونعم الوكيل تدوى فى أذنيه.. ضغط بقوة على أحد أزرار الموبايل.. انفجرت العبوة الناسفة وتطاير جسده أشلاء فى عمق الصحراء. فعل ذلك لشىء واحد فقط وهو أن ضميره استيقظ بعد أن فهم صحيح الدين الإسلامى الحنيف.. بعد أن عرف عن حق حرمة الدماء عند الله.. بعد أن عرف عن حق أن «لا إكراه فى الدين».. بعد أن عرف عن حق عظمة رسول الله، الرحمة المهداة، محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام وسيرته العطرة.. فعلها وهو جان ومجنى عليه.. نعم هو جان وهو مجنى عليه.. فلو أن الدولة دولة عادلة لوجد عملاً شريفاً ولم يقع فريسة سهلة سائغة لجماعة الإخوان حين وفروا له عملاً يتناسب مع مؤهله.. وهو مجنى عليه بفعل عجز مؤسسة الأزهر الشريف عن القيام بدورها وواجبها فى تفقيه المسلمين بصحيح أمور دينهم وتفقيههم الفقه الإسلامى المستنير الذى يتمشى مع صحيح الدين ولبّه وجوهره.. ولا أملك إلا أن أهدى قصة هذا الشاب الإرهابى المنتحر إلى الرئيس السيسى والحكومة كعبرة كى يكثفوا جهودهم لانتشال ملايين الشباب «القنابل الموقوتة» من البطالة وتوفير وظائف ملائمة لهم.. وكذلك أهديها لفضيلة شيخ الأزهر كعظة كى يعمل جاهداً على تفعيل دور الأزهر فى تعريف صحيح الدين ولبّه وجوهره لعموم العامة. والله سبحانه وتعالى من وراء القصد. (جميع الحقوق فى النشر والتأليف محفوظة للكاتب).