مر على جماعة الإخوان منذ إنشائها عام 1928 حتى الآن 87 عاماً، وهى فترة طويلة عاصرت فيها أنظمة حكم مختلفة.. وقد علا نجمها فى فترات، وأفل فى فترات.. ومن المفيد فى هذا الوقت أن نقوم بدراسة تقويمية نقدية لها، فكراً وحركة ومنهجاً وأهدافاً، خاصة بعد وصولها إلى السلطة، وفشلها الذريع بعد عام واحد من توليها، وتماهيها مع فصائل العنف والإرهاب، وأخيراً ارتمائها فى أحضان أمريكا.. وإذا كانت الأخيرة سعت لتمكينها من حكم مصر، لا لشىء إلا لإنجاز المشروع الصهيو - أمريكى فى المنطقة، فهى الآن تستخدمها للضغط والابتزاز وكمعول هدم لزعزعة أمن واستقرار مصر.. لا أكون مبالغاً إذا قلت إن أهم مشكلة فى الجماعة، والتى يتفرع عنها معظم -إن لم يكن كل- المشكلات، هى مشكلة ثقافة «السمع والطاعة، والثقة فى القيادة».. ينطبق عليهم ما شاع من قديم على ألسنة المصريين من أن «الناس على دين ملوكهم»، لكن بصورة أخرى وهى أن «الإخوان على دين قياداتهم»، فهم فعلاً على وجه الإجمال يطيعون قياداتهم طاعة عمياء، فالقول الفصل والمعتمد والمعتبر هو ما تقوله القيادة، وغير ذلك لا يعتد به، بغض النظر عن صوابه أو خطئه.. وقد حرصت هذه القيادات -دون استثناء- منذ «البنا» وانتهاء ب«بديع»، على تربية وتشكيل الأفراد على أساس هذه الثقافة، ظناً منهم أنهم يقيمون تنظيماً قوياً قادراً على تنفيذ الفكرة، وتجسيدها على أرض الواقع، وهم لا يدركون أنهم يسيرون فى طريق الفشل.. فالتنظيم على هذه الشاكلة يفقد قدرته ليس فقط على الابتكار والإبداع، وإنما أيضاً على التفكير والتغيير بما يتلاءم ومستجدات العصر، الأمر الذى يجعله خارج السياق وخارج التاريخ.. كان التنظيم دائماً كجبل جليد، الجزء الظاهر منه قليل، والغاطس منه كبير، بالرغم من أن هذا الأخير كان معروفاً لأجهزة مباحث أمن الدولة.. وقد سهل هذا الوضع للأنظمة المختلفة أن توجه للجماعة ضربات قاصمة.. ولا شك أن الانغلاق على التنظيم، وعدم الانفتاح على الآخرين والاستفادة مما عندهم من أفكار وآراء إيجابية، أورث التنظيم أحادية النظرة، وضيق الأفق.. هذا فضلاً عن أنه لا يوجد هناك تنظيم محكم، فكل التنظيمات عرضة للاختراق وإحداث الثغرات، بل إن الثغرات كثيراً ما تأتى من داخل التنظيم ذاته.. وعلى الرغم من ادعاء الإخوان بأنهم جماعة «ربانية»، فإنهم لا يختلفون عن غيرهم فيما يتعلق بتصعيد القيادات، من حيث فقدان المعايير، والتربيط، والشللية، والاغتيال المعنوى -إذا لزم الأمر- لمن يريدون إقصاءه، كى يتم اختيار من هو مرضىّ عنه كاملاً من قياداته، ليس من حيث إسهامه الفكرى أو العلمى أو التربوى.. إلخ، لكن من حيث مدى توافر ثقافة «السمع والطاعة» و«الثقة فى القيادة» لديه، دون تردد أو اهتزاز أو مناقشة، حتى وإن لم يكن له إسهام من أى نوع.. وكثيراً ما تتصف هذه النوعية «المختارة» بالمداهنة والتملق والتسلق والطفيلية تجاه قياداتها، وبالديكتاتورية والاستبداد تجاه من يلونهم.. أما «المشاكسون» الذين لديهم أفكار ورؤى، وحرص على المناقشة والحوار، وممارسة الشورى، ومساءلة ومحاسبة المسئولين.. إلخ، فهؤلاء لا ينصح بانتخابهم، بل كانت الأوامر والتعليمات تصدر باستبعادهم.. ومن ثم يتم التصعيد إلى المراكز القيادية على جميع المستويات -بشكل مستمر- من ليس أهلاً للقيادة، خاصة فيما يتعلق بالنهوض والتطوير والتقدم.. وبالتالى، سوف نكون أمام جماعة جامدة، متصلبة، متكلسة.. والغريب أنهم كانوا -ولا يزالون- يروجون ويسوقون لهذا بمصطلحات لها بريقها وجاذبيتها، من مثل: الثبات، والصمود، والحرص على ثوابت الجماعة.. إلخ. الوحيد من المرشدين والقادة الذى كانت لديه قدرات إبداعية، وشجاعة غير مسبوقة على كسر الجمود، وإقدام فذ على اقتحام الجديد، وتقديم مبادرات غير نمطية أو تقليدية هو عمر التلمسانى.. كان يعلم أنه يسبح ضد التيار، وأن هناك محاولات شديدة من إخوانه تريد تعويق انطلاقه، لكنه لم يأبه بها ولم يستسلم لها.. قال لى عندما تم اختيارى عضواً بمكتب الإرشاد عام 1985: يا أخ محمد.. سوف ترى من الإخوان ما لا تراه من غيرهم.. قلت: وما العمل؟ رد قائلاً: اصبر عليهم.. كان «التلمسانى» يعشق الشورى والمؤسسية.. لم تكن الشورى عنده مجرد أسلوب لحسم الخلاف، بل كانت مدرسة للحوار وتبادل الأفكار والآراء مع الصغير قبل الكبير.. كان يحب «المشاكسين» من أصحاب الرؤى والأفكار، ويجد متعة فى الحديث معهم.. كان أول من تحدث عن ضرورة إنشاء حزب للإخوان، بعد أن كان تابوهاً، وهو صاحب الانفتاح على المجتمع والأحزاب؛ فقد لعب دوراً من أعظم الأدوار فى التواصل مع الهيئات والمؤسسات والنقابات واستطاع بعفة لسانه وأدبه الجم وفهمه العميق وفقهه الدقيق أن يحدث نقلة نوعية للجماعة على المستوى المجتمعى العام بعد ما شابها فى الفترة بين عامى 50 و70، كما كان أول من نسق مع حزب الوفد فى انتخابات مجلس الشعب عام 1984.. كان «التلمسانى» وطنياً من الطراز الأول.. كان يفيض وطنية.. حريصاً على مؤسسات الدولة.. كان فى زيارة لإحدى دول الخليج وسئل عن الرئيس الراحل «السادات» عقب اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام، ورغم موقفه الرافض لها، لم يقبل -شهامة ومروءة- أن يتناول الرجل بالهجوم.. قارنوا بينه وبين هؤلاء الذين لا يخجلون من التذلل والاستجداء لأمريكا كى تعيدهم إلى السلطة مرة أخرى أو تحسين موقفهم، وما هى بقادرة على أى من ذلك، فالعجلة دارت ولن تعود إلى الوراء، وسوف تفشل كل المحاولات الساعية لتفكيك مصر أو زعزعة استقرارها، بفضل أبنائها المخلصين الطيبين الذين يبنون ولا يهدمون، والذين يبذلون النفس والنفيس من أجل استقلال وطنهم وإعلاء شأنه ورفع رايته.. لقد رحل عمر التلمسانى عن عالمنا عام 1986، دون أن يستكمل مشروعاته ومبادراته، ولأن أحداً لم يستطع أن يملأ الفراغ الذى تركه، فقد انطفأت المصابيح التى أوقدها.