كان العام 82 حيث انتقلنا للعيش بدولة البحرين الحبيبة لظروف عمل أبى هناك الذى سبقنا بأشهر قليلة إلى تلك الأرض الطيبة، وخلال تلك الأشهر كان أبى قد خط عشرات الخطابات التى بث بها شجونه ولواعج وحدته ومرارة اغترابه من دوننا، فقد كان قلبه دائم التعلق بنا وروحه متشبثة بوجداننا وما زالت كذلك بالرغم من رحيله، فهو قد صنع شيئاً عبقرياً يضمن له البقاء معنا كل دقيقة أخبركم به لاحقاً. كانت تلك الخطابات قِطَعاً أدبية رائعة لو جُمعت لصنعت أفضل المؤلفات فى فن كتابة الرسالة، وكثيراً ما تعجبت لماذا لم يمتهن أبى الكتابة كحرفة؟! إلا أن عمله كرجل قانون لم يبتعد كثيراً عن الأمر! ولم يتوقف أبى عن روعة خطاباته أبداً، فقد كان جميع أصدقائنا وأقاربنا ينتظرونها لما بها من متعة فى القراءة، تجعلك تعيد قراءتها مراراً متلهفاً للخطاب المقبل ولذاك الخط الجميل الذى قد ورثه عن أبيه، إلا أن مراسلاته لنا كأسرته لم يكن لها داعٍ لسنوات طوال حيث كنا ننعم بدفء قربه ومتعة التنشئة على يديه، لكنه عاود مراسلاته لى أنا وحدى عندما اغتربت لأول مرة عنه وعن أسرتى بسبب دخولى الجامعة، وتراسلنا لسنة واحدة ثم توقفت الخطابات تماماً بأمر إلهى وأذعنّا وامتثلنا أنا وأبى وجميع أسرتى لهذا الأمر الجلل فقد سبقنا هذه المرة أيضاً واغتربنا مرة أخرى عنه، لكن هذه المرة دون خطابات ومن يومها وأنا وإخوتى نستسيغ الغربة ونأتنس بها وكأننا نتبع آثاراً تركناها مجترّين أيام الطفولة الهنيّة. نعود للمشهد سنة 82 تحدد موعد سفرنا للحاق بأبى وأخذنا نحضر الحقائب ونستعد لمغادرة البلاد واحترنا ماذا نحمل معنا إلى تلك الأرض الجديدة، يقولون إنها حارة جداً، مع أننا كنا حينها فى فصل الشتاء.. وفى ضوء تلك المعلومة عن حرارة الخليج أخذت حقائبنا طابع وملمح أناس ذاهبين ليصطافوا، وحتى أمر الحقائب لم يتركه أبى للصدف بل أوصانا بحمل القليل من الأمتعة لأنه قام بشراء الكثير من الهدايا والألعاب وبهذا أعدنا أغراضنا لبيتنا القاهرى مودعين إياها وإياه. وجاء يوم السفر الموعود وكنّا نتسابق فى الأناقة بالذات أنا لم أترك شيئاً إلا واعتنيت به، كنت مراهقة فى الخامسة من عمرى!! فقد استعرت أحمر شفاه أمى ولم أغادر المنزل إلا بعد تأكدى من وضع طلاء أظافرى الرائع وما زلت أفعل الشىء نفسه وتفعله ابنتاى الصغيرتان اليوم بمنتهى الدقة، وبالطبع لم أنسَ إلقاء خصلة شعرى على عينى، والآن عندما أرى خصلة شعر «عالية» ابنتى أتذكرنى وأضحك سعيدة بابنتى باكية على طفولتى. واتجهنا صوب المطار ولم ننسَ بالطبع باقة الأزهار، امنعوا الضحك رجاءً.. فقد كان هذا فى الثمانينات وكان هذا أمراً عاطفياً عادياً جداً، أما زلتم تضحكون! إذن، ماذا ستفعلون إن رأيتم عروساً بثوبها الأبيض فى الجوار تلملم ذيل ثوبها من جهة وتمسح بالباقى أرض المطار؟ جميل هذا الشعب العاطفى. كنت فى الخامسة والنصف تقريباً وكان أخواى التوأم أسامة وأحمد يصغراننى بعام واحد وكانت الصغرى نورهان عمرها عام ونصف العام وأمى بمعطفها الشامواه البنى اللون تدفعنا أمامها كقطة رشيقة أنيقة، كانت وجوهنا باسمة نترقب ركوب الطائرة التى ستوصلنا لمكان جديد وصفه لنا أبى فى مقطوعاته الأدبية إياها بما يحفز الخيال ويستثير الهمم ويداعب الوجدان. كنت أراقب المطار وإضاءته وبناءه ولفت انتباهى أناقة سيدات الضيافة وعظمة الطيارين، كما طن بأذنى صوت التنبيهات الصوتية المميزة للإعلان عن مغادرة ووصول الرحلات وبقية التعليمات الملاحية.. يا لها من بداية!! وأخذنا أنا وإخوتى نقلد الأصوات وكان كورالاً متحركاً، كنّا نلتفت بنشاط وحيوية إلى جميع التفاصيل حولنا وينبه بعضنا بعضاً حتى لا يفوتنا شىء، وركبنا الطائرة مستقرين فى أماكننا، ونربط الأحزمة وتبتسم المضيفات ويساعدننا فى الجلوس ونحن نبتسم فى دعة وبراءة شديدة.. هكذا بدا الأمر، بيد أننا كنا نستعد للجزء الثانى من المتابعة والعبث والابتكار. وتتجه الطائرة إلى مطار المحرق بدولة البحرين على متن رحلة لطيران الخليج، كانت رحلتنا الأولى والمميزة وكنا كجميع أبناء جيلنا أطفالاً هادئين نوعاً ما، مطيعين، نلتزم بالآداب والقوانين، هذا قبل دقائق من سكب عصير البرتقال على معطف أمى وسحب نورا من فستانها الأسود ذى الورود الحمراء...