هي فضيلة غير مكتسبة، لايدللإنسان فيها، لأنها مكتوبة ومن صنع القدر الذي يجعل حياة بعض بني البشر بيننا ومضة خاطفة، كشهب يمر بحياتنا ينير في لحظة دروبنا ثم يختفي؛ لأنه في جوهره لم يكن يضيئ فقط، بل أيضا يحترق. وخير من ينطبق عليهم هذا التوصيف، هما الراحلان في سرعة البرق؛ الأديب الراحل يحييالطاهرعبداللهشريف الأدباء وشاعرالقصةالقصيرة، وكاتب" الحقائق القديمةصالحة لإثارةالدهشة". وكذلك الشاعر الراحل أمل دنقل الجنوبي الذي لم يخن طبقته وقضيته، وكاتب" البكاءبين يدي زرقاءاليمامة ". وأظن أن من أهم أسباب صنع ظاهرة وأسطورة يحيي الطاهر عبدالله وأمل دنقل، وحضورهما المتجدد إلى اليوم، في وعي وقلوب عشاق الأدب والشعر، كبشروسيرةونص، هو رحيلهما المبكر مع مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وهما في قمة توهجهما الإبداعي، وعند بداية سن الأربعين. ودائما ما أطرح علي نفسي هذا السؤال: ماذا لو أمتد بهما العمر إلى الآن، ليصبحا اليوم فوق سن السبعين، ما الذي كان سيفعله بهما الزمان، وهزيمة الأحلام، وأعباء الحياة والأسرة والأبناء؟ هل كانت لتخف حدة وجموح يحيي الطاهر عبدالله، ورغبته في التحرر من القيود وأي التزام، بوصفه مبدع وفنان، ويقبل بوظيفة في وزارة الثقافة، لتنضب موهبته، ويكف عن كتابة الأدب من سنين. وهل كان يمكن لأمل دنقل أن يتحرر من التزامه الشعري والطبقي، وينتهي إلى عدم جدوى المقاومة بالكلمة، ويتفرغ في خريف حياته بدافع طلب الرزق لكتابة أغاني المسلسلات وشعر الحب؟ ربما حدث ذلك، وانتهيا إلى ما انتهى إليه الكثير من أبناء جيلهما. وربما ظلا أوفياء لمبادئهما، واختياراتهما في الحياة، وأحلام شبابهما؛ولوجدنا يحيى الطاهر عبدالله بيننا اليوم، يكتب بصدقه المعهود باقي حقائقه القديمة الصالحة لإثارة الدهشة، ويُجسد بحساسيته الإبداعية الفائقة، دراما حياة المصريين اليوم، ويُخاطب الكادحين وملح أرض هذه البلاد بمقولته الخالدة: " أرفع فأسك المصرية، وبيديك القادرتين هاتين، اضرب واجرح الأرض كما لو كنت تقتل حية. مزق جسد الصخرة، وأرفع حاجز الموت عن الشجرة التي تمنحك الظل والثمرة". أما أمل دنقل، فلو عاش بيننا إلى اليوم، فلربما توهج وتألق مع ثورة 25 يناير، واستعاد أجواء قصيدته الكعكة الحجرية، وحمد الله أن العمر قد امتد به ليعيش تلك اللحظة الفارقة في تاريخ الوطن. وبعدها ونتيجة لتخبط مسار الثورة والثوار، وظهور بعض بشائر عودة النظام القديم، وجدناه يتأرجح بين اليأس والرجاء، وفي حالة اليأس يقول من جديد: " لا تحلموا بعالم سعيد/ فخلف كل قيصر يموت/ قيصر جديد/ وخلف كل ثائر يموت/ أحزان بلا جدوى/ ودمعة سُدى".لكنهسرعان ما يستعيد الأمل والرجاء، ويعود ليبشر بجدوى الحلم والمقاومة، فيقول: " آه .. ما أقسى الجدار/ عندما ينهض في وجه الشروق/ ربما ننفق كل العمر/ كي ننقب ثغرة/ ليمر الضوء للأجيال مرة/ ربما لو لم يكن هذا الجدار/ ما عرفنا قيمة الضوء الطليق". هذ أسئلة وإجابات افتراضية، نابعة من قراءة تحولات بعض المثقفين والكتاب في العقود الأخيرة، بدافع الهزيمة النفسية، وموت الأحلام الكبرى، والانغماس في مشاغل وأعباء الحياة وطلب الرزق.وفي النهاية لا يبقى لنا سوى أن نقول: رحم الله يحيى الطاهر عبدالله وأمل دنقل، فقد رحلا صغارا، وهم أوفياء لمبادئهما واختياراتهما في الحياة، ليعيشا بحب واحترام في وعي كل من سيأتي مستقبلا ليقرأ إبداعهما ويعلم سيرتهما، ويحاول أن يفهم ويفك شفرة الرسائل والمضامين المتجددة في أعمالهما، التي كتبت لهما الخلود، وجعلتهما موتى لا يرحلون.