فى مكان سرمدى لا نستطيع أن نصل إليه، وعند نقطة الزمن صفر، جلس أديبان مصريان يتحدثان.. الأديب الأول هو يوسف إدريس، والثانى هو يوسف السباعى، كانا ينظران للدنيا كلها، ماضيها وحاضرها، وبعد فترة سكون دامت بينهما قال يوسف إدريس للسباعى: انظر يا رجل.. ألم ترَ ما حدث؟ قال السباعى: هه ماذا حدث؟ قال إدريس: ذات يوم فى بلادى فى زمن قديم سابق على ثورة يناير، وفى قول آخر «فى زمن سابق على عصر مبارك» قام رهط من رجال الأعمال وخبراء السياسة وعلماء النفس بافتتاح مصنع للوجوه المستعارة، فقد حدث أن ضاق الناس من وجوههم التقليدية وفشلت كل الحلول التى تجعلهم راضين عن تلك الوجوه التى منحها الله لهم! سخر بعضهم من القول المأثور بأن الله يعطى الإنسان الوجه الذى يستحقه، ورفض البعض الآخر القول المشهور بأن الإنسان لا يستطيع أن يكون إلا نفسه، وثبت لديهم فشل فكرة مصنع صفات البشر التى كتبتَ عنها منذ زمن. قال السباعى: بالطبع يا صديقى هل تذكر روايتى «أرض النفاق»، وقد كان أثر حبوب الشجاعة يزول بعد ساعات قليلة، وكانت الطامة الكبرى عندما يزول أثر حبوب النفاق مما ترتب عليه حدوث كوارث اجتماعية. استطرد إدريس: كان الحل الأمثل هو افتتاح مصنع للوجوه المستعارة، إذ يكفى أن يحصل المواطن على الوجه الذى يريده، يستبقيه معه المدة التى يريدها ويتخلص منه فى الوقت المناسب له، ولكن من ذا الذى يستطيع أن يصنع وجوهاً ذات خلطة سحرية لا تخيب أبداً، ظل الأمر فترة من الزمن سراً من الأسرار القومية التى لا يجوز الحديث عنها فى أى وقت من الأوقات، وعندما تسرب الخبر إلى أحد الصحفيين تم اختطافه ووضعه فى برميل به مواد كيميائية فكان أن ذاب جسده تماماً وكأنه لم يكن، وجاءت اللحظة الحاسمة وتم الانتهاء من تشييد مصنع الوجوه وبدأت خطوط الإنتاج عملها، وتم طرح الوجوه المستعارة على رجال السياسة، والغريب أن الإقبال فى بداية الأمر كان على وجوه الشجاعة، ولكن سرعان ما كسدت تجارة وجوه الشجاعة وتوقفت خطوط إنتاجه، وأصبحت الوجوه الوحيدة التى يتم إنتاجها هى وجوه النفاق وكانت التجارب جد مثيرة وفقاً لما سأحكيه لك. قال السباعى: قل يا ملك الحكايات وساحر القصص. قال إدريس: ارتدى الصحفى الشهير «زكى قدرة» أول وجه تم إنتاجه من وجوه النفاق، وفى لمح البصر بعد أن كان الرفيق زكى قدرة أحد رموز اليسار المصرى إذا به يقوم بالانحناء وكأنه يركع لله ثم أخذ يقبل يد السيد جمال مبارك نجل رئيس الجمهورية الذى كان يحلم بالجلوس على كرسى الحكم، وأخذ زكى قدرة فى كل أجهزة الإعلام يتحدث عن عبقرية جمال مبارك وقدرته الفذة على إنقاذ الاقتصاد المصرى، وبعد جهد كبير استطاع زكى قدرة الحصول على الإنتاج الثانى من وجوه النفاق وكان فى الحقيقة أكثر تميزاً من الإنتاج الأول، ومن خلاله استطاع أن يصبح شريكاً لابن أحد رموز نظام مبارك فى أعمال تجارية قفزت به إلى مصاف المليونيرات، وبعد أن قامت ثورة يناير وظهر أن حكم مبارك إلى زوال كان زكى قدرة هو أول من قدم بلاغات للنائب العام ضد حسنى مبارك وأولاده ورموز نظامه، وبعد جهد جهيد حصل زكى قدرة على الإنتاج الثالث المحسن لوجوه النفاق وأخذ ينافق به المجلس العسكرى ثم جماعة الإخوان، وفى زمن عبدالفتاح السيسى انقلب على السابقين وأصبح من أكبر حملة المباخر للرئيس الجديد. قال السباعى: وهل من غيره؟ قال إدريس: نعم، معظم مجموعة رؤساء الأحزاب القديمة لم تكن بعيدة عن مصنع وجوه النفاق، فكلها تقريباً كانت تتغزل فى حسنى مبارك وتناشده أن يجلس معها ويعطيها مساحة ولو صغيرة فى البرلمان، وبعد الثورة إذا بها كلها تصبح أحزاباً ثورية أو داعية للثورة، ولك أن تستمع للمحامى الكبير الذى يقول فى كل القنوات الفضائية إنه كان أحد أكبر المعارضين ل«مبارك» لتعرف أنه حصل على وجه متميز من وجوه النفاق، فالكل يعرف كم من الأيام قضاها ساهراً يعد الدقائق والساعات ينتظر لحظة يقبل فيها مبارك أن يقابله ويرضى عنه! أما أستاذ العلوم السياسية فله قصة، إذ كان أحد الشخصيات التى اعتمد عليها جمال مبارك فى صناعة خطابه السياسى، وبعد أن حصل هذا الأستاذ على وجه معدل للنفاق استطاع أن يشق به طريقه بسرعة البرق لكى يكون عضواً فى لجنة السياسات، وبلكنته الأمريكية وشعره الذى ينسدل على قفاه ظنه الناس شكلاً من أشكال الحداثة، ولعله يكون عبقرياً فيقدم لنا نموذجاً للشخصية السياسية المثقفة الخلاقة، ولأن مصر فيها العجائب فقد رأينا بعد ثورة يناير هذا الأستاذ وهو يرتدى وجهاً جديداً للنفاق كى يدخل به عالم الثورة الجديد، وفى غمضة عين أصبح أحد رموز الثورة ومنظريها، ثم تبرّأ بصلافة وغرور من صلته بجمال مبارك، فقد كان وجهه الجديد خليطاً بين النفاق والوقاحة. ولا أظنك ستهتم يا يوسف بك السباعى برؤساء تحرير الصحف فى عهد مبارك، بعضهم غاب عن الساحة تماماً والبعض الآخر ممن حصلوا على وجوه النفاق استطاعوا التسلل للنظام الجديد، بل إن عدداً منهم فى طريقه لعضوية البرلمان فى القوائم الوطنية التى يتم إعدادها، ولك أن تدخل إلى عالم رجال الأعمال الكبار لتعرف أن من كانوا سبباً من أسباب الفساد فى عهد مبارك استطاعوا الحصول على نسخ حديثة من وجوه النفاق، ومن ثم أصبحوا يتقلدون مكانة مرموقة فى عهد النظام الجديد، والبعض منهم أصبح مثل «وكلاء الفنانين» يقوم بالإنفاق على بعض القوائم الانتخابية ليصبح له فى مستقبل الأيام عدد كذا رأس فى البرلمان، وبهم يستطيع أن يقضى مصالحه، فنحن الآن لسنا فى زمن العضو الفرد الذى يسعى لتحقيق مصالحه، ولكننا فى زمن «الكوتة» وبمقدار عدد الأعضاء الذين معك تستطيع امتلاك ما تريده من مصر. وهنا ظهر معهما فى الصورة شاعر مجهول يبدو أنه ضج مما سمعه منهما فأخذ ينشد قائلاً: «يا نفس.. إنى مستقيلْ هذا خطاب الاستقالة والرحيلْ أنا من بلاد الطائرين إلى السماءِ بلا رفيقٍ أو خليلْ والحق أن الطائرين بلا بلاد أو سبيلْ الطائرون بلا قناعٍ أو مثيلْ الطائرون إلى السماء يغردونَ ويهدلون ويهطلون على النخيلِ ويسبقون الظل فى يوم ظليلْ هم فجوة ترنو إلينا من وراء المستحيلْ الحالمون حقيقةٌ كونيةٌ مخفيةٌ فى الغيب يعرفها النبيلُ بلا دليلْ وتغيب عن قلب العليلْ أنا من بلاد الراحلين».