ولأنه أب؛ فبيقرر يسافر أربع خمس سنين عشان يعلم ولاده أحسن تعليم.. وطبعاً ال4 سنين بيبقوا 25 سنة.. ولاده الحمد لله اتخرجوا من أحسن جامعات، فخلاص بقى الأب بيقول يرجع بلده، فيلاقى عيلته بتقول له «طب ما تستحمل شوية عشان تجيب فيلا فى التجمع بدل الشقة اللى انت عايش فيها دى أصل مش بعد كل سنين الغربة دى كلها تعيش فى شقة!».. فبيرجع يصبر الأب وتعدى 8 سنين تانيين وبيغير الشقة الإخيه! فبيفرح أوى إنه خلص كل اللى وراه ويفتكر نفسه هيرجع.. فيلاقى اللى يقول له «ترجع فين! طب لو فرضنا ورجعت هتيجى تشتغل ريه هنا؟ انت عارف إنك ملكش وظيفة؟ ده أنت حتى ملكش معاش تتسند عليه! وبعدين هتتعب هنا جداً دا النور بيقطع كتير والشوارع زحمة جداً»، فيرد الأب يقول «عايز أقعد وسطكم.. والله أنا تعبت».. فيقولوا له «تعبت من إيه دا انتو عندكو كل حاجة، دا كوباية الزبادى قد كداااااهو وبريال والموز مستورد ومفيهوش ولا نقطة سودة غير بقى إن شغلك جمب البيت!».. فيبكى الأب لأنه حس واتأكد إن وجوده وسط عيلته من غير عملة صعبة مش بس صعب.. لأ دا مستحيل. غربة الأب مبتنتهيش لأن عيلته بتبقى شايفة إنه لو نهاها هيبقى بيتدلع وبيرفص النعمة.. وكأن كوباية الزبادى والموز همّا الحياة والسعادة! للأسف آباء كتير عقد عملهم مبينتهيش غير لما تنتقل كفالتهم لإيد ربنا أو لإيد المرض.. آباء كتير عمرهم ضاع ولما بيحبوا يعيشوا اللى باقى من عمرهم قرارهم بيترفض.. وحياتهم بتتمنع. وأخيراً وبعد غربة 45 سنة اتقبل قرار الأب بإنه يرجع.. أو للتوضيح أكتر هو كان قرار المرض مش قرار الأب.. رجع الأب بس فى غيبوبة وتعبان.. رجع عالمستشفى عدل.. كان من جواه فرحان إنه رجع بلده.. فرحان بصوت أحفاده اللى سامعهم ومش قادر يقول لهم بحبكم.. فرحان بلمسة إيد ولاده لإيده.. حاسس بأمان وهو سامع الدكاترة بيتكلموا مصرى جمبه.. كان فرحان بطعم أكل مصر.. أقصد طعم محاليل مصر!!.. ماهو أصله راجع بعد ما الغربة موتت فيه عمره وشبابه.. راجع جسم وكام دقة قلب متسابينله عشان بس يلحق يسمع صوت ولاده.. وهو فى غيبوبته بيعيش الحياة اللى كان نفسه يعيشها فبيشوف نفسه قاعد بيتغدى وسط ولاده ومراته.. بيشوف نفسه قاعد بيفطر يوم الجمعة معاهم وسهران بالليل قصاد مسرحية حلوة متغطى بعيلته من برد الشتا وبيشرب حاجة دافية فى حضن بنته.. شاف كل ده فابتسم.. وفجأة تصفر الأجهزة معلنة النداء الأخير لإقلاع الرحلة المتجهة للآخرة.. ويرحل الأب وكأن رجوعه لبلده كان ترانزيت.. الأب شاف ولاده ومراته بيبكوا ويقولوا «متسيبناش».. فيقول لهم «متخافوش روحوا اصرفوا أنا سايب لكم ورث كتير.. أحفادى بحبكم وكان نفسى ألعب معاكم وأجرى وراكم.. كان نفسى أنام فى حضنكم.. كان نفسى أحكيلكم حكاية قبل النوم اللى ملحقتش أحكيها لولادى.. كان نفسى أشوفكم بتكبروا قصاد عينيا لإنى مقدرتش أشوف ولادى.. كان نفسى أرجع وأنا واقف على رجلى.. وأعيش معاكم لو بس أسبوع.. معلش لازم أمشى.. بس هتوحشونى أوى.. والنبى متنسونيش من دعاكم». أب كل اللى كسبه من غربته هو عزا كبير فى جامع غالى جداً ويافطة كبيرة متزخرفة مكتوب عليها بميّة الدهب «عزاء المرحوم فلان» ومصحف جلد فاخر على 4 كولديرات صدقة جارية ونعى عريض فى الأهرام! أب عيلته قبلت قرار المرض بأنه ينهى عقد عمل أبوهم.. أب كان كل حلمه إنه يرجع بيته ويقعد وسط ولاده ويخرج يتفسح معاهم.. وفعلاً رجع بيته ودخل أوضته بس عشان يغسلوه.. قعد وسط ولاده بس وهو فى غيبوبة.. وخرج يتفسح معاهم بس عشان يدفنوه.. أب عاش حياته ميت لحد ما مات.. اتقوا الله فى أهاليكم وفى نفسكم.. وملعون أبوالفلوس اللى تخليك عايش ميت.