ومضت خمسة أيام لعزيز فى بوسطن، ورأت إيلا نفس المدينة التى اعتادت زيارتها بشكل مختلف، فقد بدت ملوّنة، رائعة تعجّ بالحيوية، وتساءلت: أكانت عمياء من قبل فلم تر كل هذا الجمال؟! رسالة: إنك قد ترى نفس الأماكن كل مرة بشكل مختلف، فالأمر يتوقف على صحبتك وحالتك النفسية والظروف المحيطة، فتبدو الصحراء المقفرة جنة عدن، أو تغدو البساتين قبوراً. كانت إيلا تذهب كل يوم من نورثامبتون إلى بوسطن لرؤيته، كانا يتغديان غداء بسيطاً لذيذاً، ويزوران متحف الفنون الجميلة، ثم يتمشيان فى حديقة بوسطن العامة على ضفة النهر، ويشاهدان الحيتان فى حوض الأسماك، ويتناولان القهوة فى المقاهى الصغيرة، كانا يتحدثان فى كل شىء وفى كل وقت، عن كل شىء مثل المأكولات البحرية وطرائق التأمل المختلفة والفنون لدى قبائل الهنود الحمر والروايات القوطية ومراقبة الطيور والبستنة وزراعة الطماطم وتفسير الأحلام. رسالة: إن من أهم مؤشرات الحب أن تتحدث مع الحبيب عن أى شىء وفى أى وقت، فإن انعدمت الكلمات والأوقات فاعلم أن الحب بينكما فى محنة ويحتاج إسعافات أولية أو حفل تأبين. كانا يقاطعان بعضهما، تزدحم فى فمهما الكلمات وفى قلبيهما المشاعر، تحدثت إيلا، وتحدثت، وتحدثت كما لم تتحدث من قبل، فقد كانت بحاجة إلى أن تتحدث وأن يستمع إلى كلماتها بالعين والقلب والعقل. ومع أنهما كانا يحرصان على عدم التلامس أو الاقتراب، فإن الأمر بات صعباً الآن، وأصبحت إيلا تتوق إلى أن تتلامس أيديهما. وفجأة ودون مقدمات أصبحت لديها جرأة لم تكن تعرف من قبل لها طريقاً، فقد كانت تمسك يد عزيز وتقبّل شفتيه فى المطعم أو الشارع، ولم تعد تبالى أن يراها أحد، بل ربما أرادت أن تُرى، وكانا يعودان عدة مرات إلى الفندق معاً، وفى كل مرة يقتربان من ممارسة الحب ولكنهما لم يفعلا ذلك أبداً. وفى صباح اليوم الذى سيعود عزيز فيه إلى أمستردام، وفى تلك الغرفة فى الفندق، كان هناك عزيز وإيلا وحقيبة سفر وصمت حزين، فكسرت إيلا الصمت الكئيب بجملة: أريد أن أخبرك شيئاً كنت أفكر فيه منذ فترة طويلة، فقال عزيز فى قلق: أريد أن أخبرك شيئاً أيضاً، لكن إيلا كانت من أخذ فرصة الحديث وحكت له وهى خجلة كيف أنها أخبرت ديفيد بأنها تحب عزيز وأنها تعرف أن هذا الأمر جنون ولكنها تريد الذهاب معه إلى أمستردام! عندها اتجه عزيز صوب النافذة ناظراً إلى المدينة بالخارج مصلياً من أجل سكانها، وقال مخاطباً إيلا والمدينة: أريد أن أرافقك إلى أمستردام، لكن لا يمكننى أن أعدك بمستقبل هناك، فردت إيلا بعصبية: ماذا تقصد؟! وأردفت: أهناك امرأة أخرى؟! فابتسم عزيز ونفى قائلاً: لا يا حبيبتى.. لا. وجلس بقربها واحتضن يديها وغضبها بين كفيه وقال: لقد أخبرتك من قبل بالحروف الثلاث التى مرت بحياتى والتى شكلت كلمة «صوفى» وبقى الحرف الأخير، هل تريدين أن تستمعى الآن؟ فقالت وهى متوجسة قلقة: نعم. رسالة: إن المرأة تغفر كل الذنوب لمن تحب إلا أن يكون هناك امرأة أخرى، فحينها ينتهى كل شىء. فذكّرها عزيز بسالف قصته عن رحلة تحوُّله إلى الإسلام والصوفية، وكيف أنه اتخذ اسماً جديداً وأملاً فى حياة جديدة وجاب أرجاء الأرض كمصور محترف يحيا حياة الدراويش، وكيف أن له صداقات مع أناس شتى فى كل قارات العالم، باحثاً متتبعاً دلالات وجود الله فى كل مكان مرتدياً قلادة عليها صورة الشمس لتذكره بشمس التبريزى الذى تربطه به صلة أشبه بصلة تناسخ الأرواح فى البوذية، فعزيز هو شمس التبريزى، ذلك الدرويش الذى تحار فى أمره: أناسك متعبد أم زنديق معربد؟! ثم ألقى عزيز مفاجأته لتزلزل إيلا بأنه مصاب بنوع مميت من سرطان الجلد، بل إن الورم قد انتشر فى جسده حتى بلغ رئتيه، وأنه لما كان فى الثانية والخمسين فقد أبلغه الأطباء أنه لن يكمل الخامسة والخمسين. وانحشر الكلام فى فم إيلا، وغافلتها الدموع، لكنها تخلصت منها بسرعة كى لا تلهيها عن كلمات عزيز. وأكمل عزيز أنه فى تلك المرحلة قد بدأ الطور الأخير والجديد فى حياته، فقد كان يستعد للموت، ولكن استقباله للموت كان مختلفاً، فلا تزال هناك أماكن يريد رؤيتها وأشياء يريد إكمالها، لهذا فقد أنشأ مؤسسة صوفية دولية وأعد ألبوماً غنائياً لمجموعة صوفيين مسلمين ويهود فى قرطبة بإسبانيا، وزار كذلك التكية فى المغرب التى أصبح صوفياً بها وزار قبر السيد ساميد، ذلك الرجل الذى قابله فى تكية المغرب وكان أول من لاحظ التشابه بينه وبين شمس التبريزى، ثم كيف اعتزل عزيز كل شىء من أجل كتابة رواية طالما حلم بكتابتها، ولكن ازدحام الحياة شغله. وقد سمى الرواية «الكفر الحلو» وأرسلها لوكالة أدبية فى أمريكا، ثم لم يعلق الكثير من الآمال عليها، وبعد أسبوع واحد فقط أتته رسالة مثيرة بالبريد الإلكترونى (وغمز لإيلا) من امرأة لا يعرفها من بوسطن (وهنا ابتسمت إيلا ابتسامة خجلة حزينة ووقورة) ومن لحظتها وقع فى الحب وتغيرت خططه وأصبح للمفاهيم نفسها معانٍ جديدة كالروحانيات والحياة والأسرة والفناء والإيمان والحب، ولم يعد يرغب بالموت بعد الآن، وقد أطلق على هذه المرحلة الجديدة فى حياته الحرف «ياء» فى كلمة صوفى، وقد كانت أصعب المراحل لأنها جاءت فى وقت اعتقد فى نفسه أنه بلغ النضوج الكامل وأنه قد تغلب على صراعات النفس والكون، وقد بدا هذا غير صحيح بالمرة، ومن يومها أصبح يرغب فى التعرف على تلك المرأة وقضاء مزيد من الوقت معها، ولم يعد راغباً فى الموت حتى إنه أوشك على التمرد على الله الذى كان يبجله ويستسلم له.. نعم، فإيلا هى الحرف ياء فى كلمة صوفى، إيلا هى تتمة قصة عزيز وتميمة حظه. رسالة: لا تصدق أبداً أنك بلغت حد الكمال أو لمست سماء الحكمة لأنك، وللحظة الأخيرة فى حياتك، سوف تتغير مفاهيمك وقناعاتك.