أعلم أن عشرات -إن لم يكن مئات- المقالات والأعمدة قد سبقتنا إلى الكتابة فى هذا الموضوع لكنه لم يكن بمقدورى كمواطن مصرى ألا أكتب عنه. كنت أتابع قداس عيد الميلاد المجيد حين وقعت المفاجأة. غمرنى شعور طاغٍ بالسعادة جمعنى بالحضور فى القداس الذين شاعت بينهم السعادة والبهجة بأول حضور لرئيس مصرى قداس عيد الميلاد. تذكرت عقوداً من الكآبة مرت منذ رحيل عبدالناصر بسبب التوجهات الجامدة أو الشائهة فى عهدى السادات ومبارك، وعندما جاءت ثورة يناير وأظهرت وحدة الشعب المصرى فى مواجهة الطغيان والفساد تفاءلنا خيراً، لكن الثورة نفسها انتكست بحكم الإخوان الذى شهد ممارسات بشعة وصلت ذروتها بحرق عشرات الكنائس فى أعقاب فض اعتصام «رابعة»، لكن مفاجأة السيسى وضعت هذا كله فى سلة الماضى، ولا أقصد أن زيارته الكاتدرائية فى قداس عيد الميلاد كأول سابقة لرئيس مصرى سوف تحل كل المشكلات لكن دلالتها دون شك أكثر من رائعة. أنا مواطن مصنوع من النسيج المصرى الواحد الذى عبر عنه السيسى فى كلمته القصيرة. عدت بذاكرتى عشرات السنين إلى أيام الزمن الجميل. نشأت فى حى شبرا حيث يقتسم المصريون كل شىء، وتجد أن جيرانك يتقاسمهم الدينان السماويان ولكنهم يشتركون فى الوطن الواحد، وأن زملاءك وأصدقاءك فى المدرسة والنادى مناصفة بين أبناء الديانتين ليس من باب «المحاصصة» الدينية وإنما لأن هذه هى ثمرة النسيج الواحد والتفاعلات الاجتماعية السوية والرائعة، وحيث تتعانق المساجد والكنائس فعلاً وليس من باب المناكفة، وتتداخل أصوات الأذان والأجراس، وحيث ترتبط القلوب البريئة من الجنسين أحياناً بمشاعر راقية إلى أن يدرك الأهل أن المسائل صارت تحتاج إلى إدارة حكيمة ويعود الجميع إلى رشده. لا أنسى ما حييت أساتذتى العظام من الأقباط ابتداءً من الأستاذ فايق مدرس أول اللغة الإنجليزية فى شبرا الإعدادية (عليه رحمة الله) إلى الدكتور بطرس غالى والدكتور سمعان بطرس فرج الله فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الذين عزفوا مع أقرانهم المسلمين سيمفونية التعليم الرفيع عبر مشوار العمر، ولا رجال مصر العظام الذين فاض عطاؤهم لوطنهم من أمثال فخرى عبدالنور وفؤاد عزيز غالى ومجدى يعقوب ويونان لبيب رزق وغيرهم الآلاف ممن لم يحظوا بشهرة هؤلاء لكنهم قدموا لوطنهم ما يستحقه من جهد وإخلاص، ولا البابا شنودة صاحب التعبير الأجمل فى قاموس الوطنية المصرية. ثم أتى علينا حين من الدهر نُكبنا فيه بالفكر المتشدد الذى أرفض وصفه بالإسلامى لأن أصحابه لا علاقة لهم بجوهر الإسلام، والذى ينظر لأقباط مصر نظرة لا تدل إلا على قطيعة أصحابها مع الإسلام، وأوقعنا هؤلاء للأسف فى زمن غياب المشروع الوطنى فى تفاهات بالغة السخف والخطورة تناقض النصوص والخبرة الإسلامية صراحةً: هل يجوز رد تحية المسيحى؟ هل تجوز تهنئته بعيده أو تجوز صداقته؟ أموالهم وكنائسهم وربما أعراضهم والعياذ بالله مستباحة، وكل ذلك فى ظل رؤى ضائعة أو مترددة أو متعاطفة مع هذه الأفكار الضالة، ثم يترجم هذا كله فى أعمال إرهاب تتضمن تدميراً للممتلكات والمنشآت ودور العبادة وإزهاقاً لأرواح المصريين بغير حق تحت راية فهمهم المريض للإسلام، وسوف يذكر التاريخ لأقباط مصر أنهم لم يلجأوا يوماً إلى العنف رداً على معاناتهم مؤكدين مجدداً أصالتهم الوطنية ابتداءً من القمص سرجيوس فارس ثورة 1919 الذى وقف على منبر الأزهر قائلاً «فليمت الأقباط ولكن فليعش المسلمون أحراراً» إلى البابا تواضروس الثانى الذى قال «وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن». السيسى مصرى مسلم سَمْته على وجهه، وكان انطباع كل من التقاه منذ بداية ظهوره على الساحة السياسية المصرية أن المقوم الدينى فى شخصيته أكيد وحقيقى، وليس ادعاءً كما كان غيره يفعل، وقد لفتنى غير مرة بفهمه المستنير وغير التقليدى الذى انعكس على كلماته فى أكثر من مناسبة دينية، وقد عبر عما فى داخلى عندما قال فى كلمته فى الاحتفال بتسليم جوائز المسابقة الدولية فى حفظ القرآن الكريم بعد توقير فكرة الجائزة والفائزين بها إنه يتمنى أن تكون هناك مسابقات فى فهم القرآن وبحوث تجرى فى هذا الصدد، وأعتقد أن هذا وثيق الصلة بما دعا إليه مؤخراً من ثورة دينية فى الاحتفال بالمولد النبوى تحمينا من تلك الأفكار التى تدعو -على حد قوله- إلى أن يقتل المسلمون باقى العالم، ووصل به الأمر إلى أن عاتب رجال الدين عتاباً حقيقياً وقال لهم إنه سيحاججهم أمام الله يوم القيامة إذا لم يتحملوا مسئولية تطهير الدين من الأفكار الضالة، ولذلك فإن ذهابه إلى الكاتدرائية ليقدم بنفسه التهنئة إلى أقباط مصر فى عيدهم كان ترجمة أمينة لفكره الإسلامى الصحيح، والحقيقة أن موضوع العودة بالإسلام إلى جوهره الحقيقى بات يكتسب فى الظروف الراهنة التى يعربد فيها الإرهاب باسم الإسلام أولوية قصوى، ومع الاعتراف بالأهمية الفائقة لدور رجال الدين فى هذا الصدد فإنه يجب أن يكون واضحاً أن دورهم وحدهم ليس كافياً، فتحقيق الثورة المطلوبة من أجل العودة بالإسلام إلى حقيقته السمحة هو مسئولية مجتمعية عامة، فكل مصرى قادر على الأقل على أن يكشف عن مواطن الخلل فى بسط مفاهيم الدين الصحيح فى المسجد والمدرسة وأجهزة الإعلام ويتحمل المثقفون مسئولية خاصة فى هذا الصدد إذ إن بمقدورهم أن يساهموا بفكرهم فى رد الاعتبار إلى صحيح الدين. كل سنة ومصر الحضارة والإنسانية التى عبر عنها هذا الرجل الجميل بزيارته التاريخية للكاتدرائية بخير.