فى أكثر الأوقات حرجاً، وبالتحديد فى أعقاب فض اعتصامى «رابعة والنهضة» فى أغسطس 2013، باتت أشرطة الأخبار على شاشات التليفزيون مكدسة بحوادث انفجارات متفرقة فى شوارع مصر وميادينها إثر زرع قنابل يدوية وعبوات ناسفة راح ضحيتها العشرات، ليصبح طوق النجاة الوحيد للجميع هو الإبلاغ عن الاشتباه فى أى جسم غريب بالخط الساخن 180، وقتها ارتقى رجال الحماية المدنية، وبالتحديد رجال المفرقعات، إلى أعلى مرتبة من الشهرة؛ إذ باتوا وسيلة الإنقاذ الوحيدة لكل من يشكك فى وجود جسم غريب ويقترب وجوده من عبوة ناسفة أو قنبلة يدوية الصنع، نداءات متكررة لسرعة الإبلاغ قبل وقوع الكارثة، هنا بدأت أفكر فى الاتصال بالرقم ورصد طريقة التعامل مع البلاغات، والكشف عن مدى جدية البلاغات من عدمه، وباتصالى من الرقم الأرضى تم تحويلى مباشرة إلى إدارة الحماية المدنية بالجيزة. عرضت فكرتى بضرورة عمل تحقيق عن رجال المفرقعات وأبرز الخبراء فيهم، تم توصيلى بمدير الإدارة وقتها العميد جمال عبدالمنعم الذى أبدى ترحابه، ثم حدد لى الميعاد مصحوباً بضرورة الحصول على تصريح من وزارة الداخلية ليتم الحديث دون حرج، ذهبت فى الميعاد المحدد إلى مبنى قديم فى شارع المرور يعرفه المواطنون بمبنى المطافئ فى حين تشير لافتة علقت فى مدخله إلى كونه مبنى الإدارة العامة للحماية المدنية بمحافظة الجيزة.. البداية تبدأ مع جرس الإنذار الذى تحمل رنته معنى الفرع المخصص لها من إطفاء أو مفرقعات أو إنقاذ نهرى، ب«رنات» محدودة يتحرك النقيب ضياء فتحى ومن معه للتعامل مع المفرقعات ويبدأ فى الحال بتجهيز سيارة المفرقعات. «نغمة» الجرس الداخلى كفيلة بأن تريك فريق العمل الذى يبدأ فى التجهيز للمهمة، شاب فى أواخر العشرينات يرتدى قميصاً فاتح اللون وبنطلون جينز ويتحدث بمرح مع الجميع، يتحدث عن المهمة المقبل عليها كأنه فى الطريق إلى نزهة بسيطة لن تستغرق الكثير، يتحدث إلى زملائه فى العمل ما بين ساعٍ وسائق وفنى ورئيس بطريقة واحدة. ولحسن حظى -بحسب ما قاله العميد جمال عبدالمنعم مدير عام الإدارة وقتها- أن النقيب ضياء هو أشهر خبراء المفرقعات بالإدارة هو مسئول النوبتجية فى ذلك اليوم التى تصل إلى 24 ساعة متواصلة، ونظراً لصعوبة العمل وحساسيته فإن المنضمين له قليلون ويأتى انضمامهم بناءً على رغبتهم الشخصية. بأسلوب مرح يبدأ حديثه مع رئيسه فى العمل، ثم يتحدث إلىّ عن الموت الذى صار رفيقه فى كل مهمة، دون رهبة أو حزن، وعن شعوره عند كل بلاغ يأتيه واتصاله بوالدته ليودعها سراً قبل أن يقدم على العملية، وسرعته فى تجهيز مستلزمات تفكيك قنبلة، والتى تبدأ بارتدائه بذلة سوداء يصل وزنها إلى 35 كيلوجراماً، وخوذة كبيرة تعزله عن العالم كله تزن فى أقصى تقدير نحو 15 كيلوجراماً، تسمح له بسماع صوت زملائه الذين يبعدون عنه مسافة تجاوز ال50 متراً.. «ضياء» الذى يحرص على الالتزام بقواعد العمل فى مجال المفرقعات ويتقن كل ما تدرب عليه طيلة 6 أشهر كاملة قبل التحاقه بقسم «المفرقعات» يؤكد أن تلك السترة لا دور لها فى حمايته من الموت متفجراً، هى فقط تحفظ جثته من التحول إلى أشلاء: «دى علشان أهلى يلاقوا حاجة يدفنوها.. القنابل بتحولنا لأشلاء صعب تتلم». حكى لى «ضياء» عن حزنه عمّا آل إليه وضع الشرطى بعد «أحداث 25 يناير»، متعجباً من عدم تسليط الضوء على رجال الحماية المدنية رغم خطورة مهمتهم، لم يكن ذاك وحده ما قاله «ضياء»، فبعض العاملين فى الإدارة يعانون من قلة رواتبهم، رغم مشقة عملهم، وهو ما قاله سائق السيارة وقتها وأكد عليه «ضياء» لكنه خشى على صديقه من التحقيق معه إذا ما تحدث عن هذا الأمر فطلب منى ألا أعرّضهما للمساءلة، وأن أتجاوز عن تلك النقطة فى الحديث، فوعدته بذلك ولم أكتب وقتها شيئاً عن رواتب العمال. رحل «ضياء» وترك خلفه طفلة رضيعة لم تحفظ ملامح أبيها بعد، وزوجة ثكلى لم تفرح بعرسها الذى لم يكمل عامه الأول، وأبوين مكلومين لم يجدا من ابنهما الوحيد إلا حسن المعاملة ودماثة الخلق.