أهلاً بكم فى محطات الكهرباء، حيث تنتشر رائحة الموت فتقصف أعمار فنيين، وسط غياب الاهتمام بإجراءات سلامة محطات الكهرباء، لتتحول إلى مصائد للموت، حيث يقع مهندسون وفنيون ضحايا عدم الالتزام بخطوات الأمن الصناعى، الذى لا توجد لائحة خاصة به فى وزارة الكهرباء، فى ظل كشف عن غياب توقيع مسئولى الأمن الصناعى عن أوامر الشغل اللازمة للعمل، فى حادثة تسببت فى وفاة اثنين وإصابة 4، واستمرار عدم توقيعهم على أوامر الشغل عقب الحادث. إهمال إدارات الأمن الصناعى فى تطبيق إجراءات السلامة أسفر عن مقتل 5 وإصابة 20 وخسارة تقدر بمليار و200 مليون جنيه فى الفترة من 2012 وحتى 2014، وسط غياب الرقابة من وزارة الكهرباء والطاقة المكلفة بمعاقبة المسئولين، وتوفير السلامة للعاملين. «راجى» فنى رحل، تاركاً خلفه «إسراء» و«شاكر» فى انتظار عودته من العمل اليومى، ومصابين تعرضوا لخطر الموت دون تعويض مناسب وسط تخويفهم من الحديث للصحافة، وخمسينى صُعق على سلم بسبب غياب عوامل الأمن الخاصة بالأمن الصناعى. تتشوق تلميذة الابتدائى إسراء وأخوها الأصغر شاكر لتلقف قبلته الصباحية المعتادة. قبل خروجهما للمدرسة، يسبقهما الأب متوجهاً إلى عمله فى محطة الكهرباء بعد أن يطبع على جبين كل منهما قبلة بطعم ندى الصباح. يظل مذاقها العذب فى فمه إلى أن يعود من عمله المحفوف بالمخاطر بسبب التساهل فى تطبيق لوائح الأمن الصناعى فى هذه المنشآت. ويبقى إحساس الحنان الأبوى يسرى فى كيان الطفلين حتى يلتقيا بالأب مجدداً فى المساء. وفى يوم طال بهما الانتظار.. وتوالت صباحات ومساءات باردة دون حنان الأب وقبلاته. عرفا أنه فى المستشفى بعد إصابة عمل. كان ضمن فريق كلف بتوصيل كابل كهربى لميكروفونات النداء العالى فى محطة كهرباء الكريمات. عملية روتينية قام بها الأب راجى محمد مراراً مع زملائه منذ التحق بالعمل فى المحطة قبل 16 عاماً. أثناء عملية التوصيل سقط الكابل ليخترق حاجز محول كهربى على مقربة ويحدث تماساً كهربائياً تسبب فى انفجار مروع واندلاع حريق. وبعد عشرة أيام فى المستشفى طلب «راجى» رؤية طفليه.. تراقص قلبا إسراء وشاكر فرحاً وبدآ يسترجعان مذاق قبلة الأب وهما يندفعان إلى غرفته بالمستشفى. هنا جالت عيونهما فى الغرفة وهما يقفان جامدين متسائلين أمام الشخص الراقد على الفراش وقد غابت ملامحه تحت طبقات دهان من المراهم. وقف الطفلان وفى عيونهما صدمة وأسئلة كثيرة. رنا الأب إليهما بنظرة طويلة.. وأخيرة.. وصعدت روحه إلى بارئها فى سبتمبر 2012. هذه المأساة ليست الأولى وربما لن تكون الأخيرة نتيجة الإهمال والتساهل فى تطبيق إجراءات الأمن الصناعى التى تحولت إلى مجرد إجراءات تجميلية فى محطات كهرباء باتت كأنها «مصائد موت»، ووسط شبكات وتوصيلات وأجهزة تحمل خطراً محدقاً بالعاملين فى الشركة القابضة لكهرباء مصر، الذين يصل عددهم إلى 70 ألف موظف. والمفاجأة التى تكشفها «الوطن» فى هذا التحقيق الاستقصائى أن التقصير فى تطبيق إجراءات الأمن الصناعى فى تلك المحطات تحول إلى ما يشبه وضعاً ممنهجاً لا يحفز إدارات المتابعة والمراقبة والأجهزة الحكومية المسئولة عن التأكد من اتباع تلك الإجراءات وتوافر الأجهزة الوقائية. محمد أبوشنب، المسئول عن العمال فى محطة الكريمات، التابعة لشركة الوجه القبلى لإنتاج الكهرباء، يتذكر مأساة 29 أغسطس 2012، قائلاً: «لو كان الأمن الصناعى موجود كان شال بلوة». وأظهر تقرير النيابة والمستشفى أن الحروق الناتجة عن الحادث أودت بحياة المهندس محمد الهوارى، وراجى محمد، فنى شبكات المعلومات. كما أصيب أربعة عمال، فيما بلغت الخسائر المادية نحو 200 ألف جنيه (نحو 28100 دولار)، حسب تقديرات مسئولين بالشركة. تشترط أنظمة العمل حصول أوامر الشغل التى تحدد المهمة والإجراءات الواجب مراعاتها فى التنفيذ على اعتماد من الأمن الصناعى، وسط المخاطر فى محطات الكهرباء. لكن اتضح أن أمر الشغل فى حادث الكريمات، الذى حصلت «الوطن» على صورة منه، كان خالياً من توقيع مسئولى الأمن الصناعى فى المحطة. وكان مديرو عموم التشغيل بمحطات التوليد التابعة للشركة قرروا يوم الأحد 16 نوفمبر 2008 أنه لتنفيذ مهام الصيانة يجب إصدار أمر شغل يتضمن (اسم الوحدة - اسم المعدة - رقم المعدة - خطوات العزل للوحدة موضع العمل) بمعرفة مهندس الصيانة واعتماده من مدير عام الصيانة. ويتولى مهندس الصيانة بعدئذ إجراءات استخراج أمر الشغل ومراجعة إجراءات العزل وتأمين المعدات مع مهندس الوردية ومهندس الأمن الصناعى مع إبداء أى ملاحظات عليه إذا وجدت وإضافتها. وتم الاتفاق فى الاجتماع على أنه لا يمكن البدء فى أى أعمال فى المحطة دون استيفاء توقيعات أمر الشغل لحماية العاملين على المعدات داخل المحطات. لكن «الوطن» حصلت على نسخة من أمر الشغل رقم 4133 الخاص بحادث الكريمات، وتبين أنه لم يستوف التعليمات التى اتفق عليها فى اجتماع مديرى التشغيل فى 2008، إذ لم يوقع مدير عام الصيانة المختص، هانى محمد على، على أمر الشغل الذى لم يتضمن أيضاً توقيع مسئول الأمن الصناعى. كما لم تحدد أى بنود للعزل والمواد التى من المفترض أن يستخدمها العاملون. وكشفت «الوطن» أن أوامر شغل تلت الحادثة بأكثر من شهر لم تتضمن كذلك توقيع مسئول الأمن الصناعى على تصريح الشغل، ولم تحدد أى بنود للعزل، فيما يكشف استمرار مسلسل الإهمال. مسئول كبير فى السلامة المهنية بالشركة القابضة يقول إن لائحة الجزاءات تعاقب على عدم توقيع أمر الشغل بخصم يتراوح بين ثلاثة وعشرة أيام. لكن «الوطن» اكتشفت أن المهندس هانى محمد على، الذى لم يوقع على أمر شغل الحادثة فى خانة مدير عام الصيانة المختص، رقى ليصبح مديراً عاماً للصيانة بقطاع نظم المعلومات، الذى وقع فيه الحادث. وتم تجديد عقده فى يوليو 2014 رغم أنه حين كان مديراً لإدارة الحاسب الآلى بقطاع النظم عام 2010 تعرض لثلاثة جزاءات أخرى. أما فتحى محمد عبدالهادى، رئيس قطاع النظم والاتصالات، وصاحب فكرة توصيل الكابلات هوائياً، التى أدت لوفاة اثنين وإصابة أربعة، فأسند إليه منصب رئيس قطاع محطة الوليدية فى أسيوط التى تنتج 600 ميجا وات. وتمت ترقيته حديثاً، ليصبح نائباً لرئيس شركة الوجه القبلى لإنتاج الكهرباء، التى تتبعها محطة الكريمات. «إيه يعنى اتنين ماتوا؟» وحين توجه معد التحقيق للقاء المهندس هانى فى مقر محطة الكريمات استقبله بجفاء ورفض إجراء أى حديث معه أو مع أى من العمال الذين أصيبوا فى الحادث. ووصف الحادثة بأنها «عادية»، وتساءل مستنكراً: «إيه يعنى اتنين ماتوا؟»، واعتبر العلاقة بين المصابين والشركة مثل علاقة الابن والأب ولا يجوز لصحفى التدخل فيها. ويرى العامل أن الأمن الصناعى دائماً ما يتم إلصاق كل الحوادث به، رغم أن «التهاون يأتى من رؤساء القطاعات ورؤساء مجالس الإدارة، إذ لا يلتفتون إلى أوامر الشغل، ويتغاضون عن مراجعتها بشكل مستمر حتى تسير الأعمال بشكل أسرع». ويرى المصدر أنهم «لو اهتموا بالأمن الصناعى حيترفدوا، عشان الشغل حيتأخر، وده القيادة مش حبّاه»، فيما يؤشر إلى تزايد التساهل فى تطبيق إجراءات السلامة فى ظل الضغوط على قطاع الكهرباء مع تكرار فترات انقطاع التيار الكهربى فى أنحاء البلاد. ويشير إلى أن الملابس الوقائية من المخاطر لا تتوافر للعديد من المهندسين والفنيين الموجودين بمواقع العمل، بما يتعارض مع لوائح السلامة المهنية فى قانون العمل رقم 12 لسنة 2003. من جانبه، يقول مسئول كبير عن السلامة والصحة المهنية فى شركة كهرباء الوجه القبلى التى تتبعها محطة الكريمات إن تجهيزات الوقاية قامت بدورها فى حادث الكريمات وفصلت المحول تلقائياً وإلا كان الوضع تفاقم. مشكلة هذا المحول أنه من الطرازات القديمة ذات المجال المفتوح، حسبما يشرح المسئول. ويضيف قائلاً: «ولحين ربنا ما يسهل والبلد حالها يتعدل نغير مثل هذا المحول بآخر معزول بالغاز الخامل سادس فلوريد الكبريت، الذى يمنع تعرض المحولات للانفجارات المتكررة». ويرى المسئول، الذى طلب عدم كشف هويته، أن للتكنولوجيا المتقدمة أضرارها وثمناً يدفعه الناس.. فالمحطات التى تزيد قدرتها على 220 ميجاوات يجب أن يكون تبريد المحولات فيها عن طريق غاز الهيدروجين الذى يتميز بقدرته العالية على التبريد. ولتجنب تسرب غاز الهيدروجين من مساراته يقوم الأمن الصناعى بعمل ما يسمى ب«دائرة عزل الزيت» التى توفر ضغطاً أعلى من ضغط الهيدروجين، وبالتالى تبقيه فى مساراته المحددة. لكن حين يحدث تسريب فى دائرة العزل أو انسداد فى مواسيرها أو غير ذلك من الأخطاء يتحرر الهيدروجين من مساراته ويتفاعل مع مركبات الهواء الجوى، ما يؤدى لحدوث انفجار وحرائق هائلة مثلما حدث فى محطة التبين يوم 27 أكتوبر 2012. وأشار المسئول إلى أن هذه التقنية غير مستخدمة وألغيت فى عقود إنشاء محطات كهرباء جديدة فى مصر مثل محطتى العين السخنة وجنوب حلوان. ويقول مسئول السلامة والصحة المهنية إنه «لا يمكن إنكار وجود قصور من جانب العنصر البشرى، خاصة فى مجال السلامة والصحة المهنية». ويرى أيضاً «أن إمكانيات الحماية المهنية التى تشرف على الأمن الصناعى ضعيفة للغاية فى حين أن إجراءات الأمن الصناعى مكلفة والشركات بحكم أنها تريد المكسب توفر من ميزانية السلامة وهذا بالطبع خطأ كبير». ويقول إنه «لا بد أن تكون إدارة الأمن الصناعى مستعدة بخطط للطوارئ تشمل تشغيل أجهزة الإطفاء التلقائى، بالإضافة إلى خطط للوقاية العادية تتعلق بضمان استعداد المنشأة بصورة عامة من خلال نشر أجهزة الإنذار المبكر على صهاريج الوقود والتأكد من صلاحيتها، وأيضاً الاستعداد الكامل بأجهزة الإطفاء اليدوية لمكافحة الحرائق فى بدايتها مع المتابعة والمرور المستمر للتأكد من عدم وجود أى مواد تساعد فى اشتعال الحرائق والتخلص من المخلفات القابلة للاشتعال مثل الصناديق الخشبية التى تتخلف عن عمليات الصيانة أو تركيب المعدات». ورأى معد التحقيق بعينه عمالاً فى المحطات لا يهتمون بارتداء الخوذات الواقية أثناء عملهم على المعدات، كما أن بعضهم يدخل إلى مناطق محظورة دون متابعة من مسئولى الأمن الصناعى. واكتفى رئيس الشركة القابضة لكهرباء مصر، المهندس جابر دسوقى مصطفى، التى تضم 16 شركة منها 6 شركات توليد وشركة نقل و9 شركات توزيع، بالرد حول عدم توقيع أمر الشغل الصادر فى حادث الكريمات والمهمات التى أعقبته بالقول: «إن التحقيقات ما تزال جارية ولن يكون هناك أى تهاون». وبينما يؤكد أن «أمر الشغل لا بد أن يستوفى جميع التوقيعات حتى يبدأ العمل»، لا يستبعد «مصطفى» وجود «استسهال» من قبَل عاملين حين تكون أوامر الشغل كثيرة. ويؤكد أن التحقيقات تجرى على أعلى مستوى وستكون هناك عقوبات رادعة وحساب للمسئولين مهما بلغت درجاتهم. وسعى معد التحقيق لمعرفة نتائج التحقيقات فى الحادث، لكن المهندس مصطفى لم يرد على اتصالات متكررة طلباً للتعليق فى هذا الشأن رغم أن معد التحقيق بعث له عدة رسائل على هاتفه المحمول والبريد الإلكترونى للشركة القابضة منذ يوم 20 أغسطس الماضى. ويؤكد مسئول فى السلامة المهنية بالشركة أن العقوبات التى وقعت بعد التحقيق تراوحت بين جزاءات بخصم يوم أو ثلاثة أيام بتهمة عدم اتباع إجراءات الأمن الصناعى. ولم يكن المهندس هانى، رئيس القطاع، ضمن المعاقبين. وأشار المسئول إلى أن الإجراءات المقصودة تتمثل فى عدم ارتداء العاملين الملابس الواقية من الكهرباء أو الحريق. وفيما يتعلق بحادث محطة التبين القريبة من حلوان فى أكتوبر 2012 الذى تقدر خسائره بنحو نصف مليار جنيه (نحو 71 مليون دولار)، يقول المهندس مصطفى: إن ما حدث فى التبين «غير مسبوق على المستوى الفنى»، وعلى مدى 30 عاماً من وجوده فى الشركة. ويضيف أنه حدثت تداعيات غير متوقعة بداية من الحريق إلى كسر الريشة الخاصة بالتوربينة وصعوبة السيطرة على الأمر. لأجل هذا يدرس استشاريون والشركة المصنعة والفنيون ذوو الخبرة فى الوزارة أسباب ذلك الحادث، بحسب مصطفى، الذى ينفى «أن يكون الأمن الصناعى أظهر تقصيراً فى تعامله مع الحادث»، معتبراً أن «جهود السيطرة على الحريق تمت طبقاً للمواصفات العالمية». ويجادل «مصطفى» بأن حريق محطة كهرباء طلخا بمحافظة الدقهلية فى أكتوبر 2012 نجم بالأساس عن خطأ بشرى، حين فتح أحد العاملين فلتر زيت لتغييره بشكل مغلوط. ورداً على ذلك تم نقل رئيس القطاع ومدير عام الأجهزة المسئول عن الحادث، كما نقل العامل الذى قام بتغيير فلتر الزيت. ويضيف «مصطفى» أنه يجرى اتخاذ إجراءات تصحيحية أخرى فى محطة كهرباء طلخا وسائر المحطات التى وقعت فيها حوادث. ويؤكد أن 25% من العاملين بالوزارة يحصلون على دورات إجبارية سنوياً فى السلامة والصحة المهنية. ويصل إجمالى عدد العاملين بالشركة القابضة لكهرباء مصر لنحو 70 ألف موظف، بمن فيهم الإداريون، وأياً كانت العقوبات التى تصدر فيما وقع من حوادث تبقى الأولوية لمراعاة إجراءات الوقاية كى لا تضيع أرواح أخرى ويوقف الهدر.. ولا يفتقد أطفال مثل شاكر وإسراء لمسات الأبوة الحانية.