لعله يكون الفيتو الأسوأ فى تاريخ العلاقات الأمريكية- العربية، إذا صح أن وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى هدد الفلسطينيين باستخدامه لإلزامهم التخلى عن مشروع القرار العربى الذى قدمته الأردن إلى مجلس الأمن نيابة عن الدول العربية، يطالب مجلس الأمن بإصدار قرار يحدد موعداً زمنياً لإنهاء الاحتلال الإسرائيلى للأرض الفلسطينية بعد 67، لا يتجاوز سقفه الزمنى عامين، يستأنف خلالهما الجانبان الفلسطينى والإسرائيلى مباحثاتهما بما يضمن إعلان قيام فلسطين دولة مستقلة تعيش إلى جوار دولة إسرائيل فى أمن وسلام. وما من مبرر فى التشكيك فى صحة التهديد الأمريكى باستخدام الفيتو الذى تلقاه كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات خلال لقائه مع الوزير كيرى فى روما الأسبوع الماضى، فى محاولة أمريكية ثلاثية الأبعاد، فشل فيها الوزير الأمريكى فى إقناع رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو بالموافقة على تجميد عمليات الاستيطان فى الضفة والقدسالشرقية ولو بصورة مؤقتة، لتمكين الرئيس الفلسطينى محمود عباس من العودة إلى مائدة التفاوض، وإيجاد مسوغ مقبول يسمح للعرب بسحب مشروع قرارهم من مجلس الأمن دون أن يفقدوا ماء وجوههم! وكما حاول وزير الخارجية الأمريكى دون نجاح إقناع نتنياهو بإبداء بعض المرونة لفتح الطريق المغلق أمام استئناف التفاوض الإسرائيلى الفلسطينى، حاول كيرى إقناع وزراء الخارجية الأوروبيين خلال اجتماعه بهم فى العاصمة الإيطالية بتخفيف حجم المساندة الأوروبية لقيام دولة فلسطينية مستقلة، التى تمثلت فى سلسلة القرارات التى أصدرها تباعاً عدد من البرلمانات الأوروبية، بينها فرنسا والنمسا والسويد وفنلندا، تؤيد الاعتراف بالدولة الفلسطينية تحت ضغوط الرأى العام الأوروبى الذى يحس قلقاً متزايداً على الأمن الأوروبى وأمن البحر الأبيض بعد أن وصلت مباحثات الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى إلى حائط مسدود! ولأن كيرى فشل فى إقناع نتنياهو، ولم يحقق تقدماً كبيراً فى اجتماعه مع وزراء الخارجية الأوروبيين، تركزت كل ضغوطه كما هى العادة على الجانب الفلسطينى لإلزامه تقديم المزيد من التنازلات، والذهاب إلى مائدة التفاوض مع الإسرائيليين من أجل استمرار التفاوض الذى تواصل على امتداد 17 عاماً منذ توقيع اتفاقات أوسلو، دون ظهور بادرة أمل تشير إلى إمكانية قيام الدولة الفلسطينية! على العكس تحاول حكومة إسرائيل كل يوم أن تخلق واقعاً جديداً على الأرض الفلسطينيةالمحتلة، فى الضفة والقدسالشرقية يجعل قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس أمراً مستحيلاً! ويكمن سوء الفيتو الأمريكى الذى تعتزم واشنطن استخدامه إذا لم يسحب العرب أو الفلسطينيون مشروع قرارهم من مجلس الأمن، فى أن هدفه الواضح والمباشر ليس حماية أمن إسرائيل أو الدفاع عن حقها فى الوجود داخل حدود آمنة ومعترف بها، ولكن هدف الفيتو الأمريكى إذا تم إقراره، حماية احتلال إسرائيل للأرض الفلسطينية بعد عام 67، بما يناقض الشرعية والقانون الدولى، وينقل الموقف الأمريكى خطوات عديدة إلى الوراء لتصبح واشنطن راعياً لاحتلال إسرائيل للأرض العربية، تستخدم نفوذها وهيمنتها داخل مجلس الأمن لتكريس الاحتلال والإبقاء عليه، بدلاً من أن تعمل على إزاحته، باعتبارها الراعى الأوحد المسئول عن عملية سلام الشرق الأوسط! والأكثر دلالة وخطورة من ذلك أن تهديد واشنطنالفلسطينيين باستخدام الفيتو يتم دون أى مسوغ سياسى أو قانونى أو منطقى، فقط لأنها عاجزة عن أن تفرض الموقف الصحيح على رئيس الوزراء الإسرائيلى الذى لا يتوقف عن إهانة واشنطن والتعريض بمواقفها، وإهانة مسئوليها، ابتداء من الرئيس إلى نائبه إلى وزير الخارجية كيرى! وما يزيد من قبح الموقف الأمريكى أن المؤشرات كلها تؤكد أن نتنياهو أغلق كل الأبواب فى وجه أى حل وسط عمداً كى يلزم الأمريكيين استخدام الفيتو الأكثر سوءاً بين واحد وأربعين فيتو استخدمتها الولاياتالمتحدة لصالح إسرائيل! لأنه ينصب من واشنطن حامياً لاحتلال إسرائيلى بغيض هو أبغض صور الاحتلال التى عرفتها الإنسانية وأكثرها خسة وعنفاً، فضلاً عن أنه الاحتلال الوحيد الذى لا يزال باقياً على ظهر الكرة الأرضية، يزيد من بشاعته عزم حكومة نتنياهو على استصدار قانون عنصرى جديد سوف يؤدى لا محالة إلى تصعيد العنف داخل إسرائيل والأرض المحتلة، لأن الأقلية العربية فى إسرائيل التى تشكل 20% من حجم سكانها تحس أن قانون يهودية دولة إسرائيل يستهدفها على وجه خاص، وربما يكون تمهيداً لسلسلة من الإجراءات الإسرائيلية تنتهى إلى عمليات التهجير القسرى الجماعى للسكان العرب إلى الأردن، كى تبقى إسرائيل دولة خالصة لليهود كما يريد نتنياهو. ولا يقلل من قبح الفيتو الأمريكى محاولة فرنسا الوصول إلى صيغة وسط تحدد المدة الزمنية للتفاوض فى غضون عامين على الأكثر، دون أى ضمانات بقيام الدولة الفلسطينية بعد نهاية التفاوض! ودون إلزام إسرائيل بوقف الاستيطان أو تجميده، بدلاً من المشروع العربى الذى يحدد سقفاً زمنياً لإنهاء الاحتلال الإسرائيلى، والفارق كبير بين مشروعى القرارين العربى والفرنسى، لأن تحديد تاريخ واضح لإنهاء الاحتلال الإسرائيلى يعنى إقرار المجتمع الدولى بضرورة انسحاب إسرائيل من الأرض المحتلة بعد هذا التاريخ، لكن مشروع القرار الفرنسى يعنى ببساطة أن أمد التفاوض قابل للتجديد دون أى ضمانات تلزم إسرائيل إنهاء احتلالها للأرض الفلسطينية. والواضح من المشاورات التى تجرى الآن فى كواليس مجلس الأمن، أن المشروع الفرنسى فى صيغته الراهنة لا يحقق الحد الأدنى لمطالب الفلسطينيين، ولا يقدم لهم ما يسوغ سحب مشروع القرار العربى والعودة إلى استئناف التفاوض مع الإسرائيليين، ولا يبذل جهداً فى محاولة الحفاظ على ماء وجوههم، ولا يقترح موقفاً أو مخرجاً متى انتهت مدة التفاوض دون الوصول إلى تسوية يقبلها الطرفان! والواضح أيضاً من مشاورات كواليس مجلس الأمن أن العرب والأمريكيين والفلسطينيين معنيون بالفعل بالوصول إلى صيغة وفاق تغنى عن استخدام الفيتو الأمريكى، لكن نتنياهو يصر على إغلاق الطريق والتضييق على الموقف الفلسطينى، بحيث لا يصبح أمام الفلسطينيين سوى الإصرار على إجراء التصويت على مشروع القرار العربى مهما تكن النتائج، بسبب رفضه القاطع الجدول الزمنى الذى يحدد موعداً لانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلى، ومعارضته قيام دولة فلسطينية على كل الأرض التى تم احتلالها بعد 67. ولو صحت مؤامرة نتنياهو، ولم يجد الأمريكيون مناصاً سوى استخدام الفيتو فلن يكون هناك طريق آخر أمام الرئيس الفلسطينى محمود عباس سوى المضى قدماً فى توقيع اتفاقات جنيف الأربعة، التى تعتبر تغيير الوضع الجغرافى والديموجرافى للضفة والقدسالشرقية جرائم حرب تستحق المحاكمة، وتوقيع اتفاقية المحكمة الجنائية التى تعرض قادة إسرائيل للمحاكمة، بسبب جرائم الحرب العديدة التى ارتكبوها خلال عدوانهم المستمر على الشعب الفلسطينى خاصة فى قطاع غزة، بما يزيد من فرص الصدام والعنف بين الفلسطينيين والإسرائيليين داخل إسرائيل وعلى أرض الضفة والقدسالشرقية ويفتح أبواب التصعيد على كافة المستويات، وربما يؤدى إلى قيام انتفاضة فلسطينية ثالثة، سوف تكون الأشد عنفاً فى تاريخ الصراع الفلسطينى- الإسرائيلى لحجم مخزون الكراهية المتزايد بين الفلسطينيين والإسرائيليين! وربما يدفع هذا التطور السلبى الرئيس الفلسطينى محمود عباس إلى إعلان فشل السلطة الوطنية فى تحقيق الحد الأدنى من طموحات الشعب الفلسطينى، والاعتذار عن عدم الاستمرار فى ممارسة سلطة فارغة بلا معنى يخترقها الإسرائيليون على مدار اليوم والساعة، ورفض الاستمرار فى لعبة التفاوض من أجل التفاوض التى تستنزف مصداقية السلطة الوطنية، وإذا كان البعض يعتقد أن أبومازن رغم تكرار تهديداته لن يقدم على هذا الإجراء، فتلك حسبة خاطئة لا تضع فى حسابها حجم التمزق والتوتر الداخلى الذى يعيشه أبومازن، بسبب الخذلان الأمريكى الذى يتعرض له رغم أنه أكثر القيادات الفلسطينية عقلانية واعتدالاً، ولعله القيادة الوحيدة التى أعلنت بوضوح كامل رفض الانتفاضة المسلحة، لأنها سوف تجلب على الشعب الفلسطينى أضراراً أكبر كثيراً من أى نتائج متوقعة، ويزيد من أزمة أبومازن، رغم نجاحه فى إحراج اليمين الإسرائيلى وتمكنه من وضع نتنياهو فى مأزق صعب قد يؤدى إلى خسارته لانتخابات الكنيست المقبلة، الانقسام المتزايد فى الموقف الفلسطينى، واستمرار حماس فى طعن أبومازن من الخلف، إلى حد تحالفها مع محمد دحلان غريم حماس الأول فى غزة نكاية فى أبومازن، وكلها احتمالات سيئة تنذر بمرحلة قادمة من العنف والفوضى، بسبب ضعف الموقف الأمريكى، وعدم قدرته على مواجهة صلف رئيس الوزراء نتنياهو حتى وهو فى أضعف حالاته!