السياسيون فى سبيل صراعاتهم، والثوريون فى سبيل أحلامهم، يتخذون قرارات تترك بصمات ثقيلة على مستقبل أوطانهم. الغرور والعنجهية هى من السمات الملازمة لشخصية السياسى والثورى، فتجده يظن نفسه أكثر معرفة وذكاء من الآخرين، يستطيع رؤية ما لا يرونه، ويفهم أكثر منهم تلك التيارات التحتية والمكونات النفسية والثقافية العميقة المؤثرة فى حياة الأمة. معظم النار التى نكتوى بها الآن جاءت من قرارات عابرة اتخذها قادة من هذا النوع. تصور هؤلاء أنهم يصنعون مستقبلاً أفضل لبلادهم، فانتهى بها الأمر فى هاوية الهلاك. أراد بعضهم تحقيق النصر فى صراع عابر على السلطة فاتخذ قرارات حددت مصير الوطن كله لعقود تالية. خذ مثلاً القرار الذى اتخذه ضباط يوليو بإلغاء الأحزاب السياسية وتأسيس تنظيم سياسى وحيد تابع للدولة ومساند للنظام. انحلت الأحزاب وفشل التنظيم السياسى الوحيد، فباتت البلاد صحراء سياسية جدباء تصدى لملء فراغها تنظيمات الإسلام السياسى المتطرفة بكل أشكالها بعد أن باءت بالفشل محاولات تأسيس أحزاب تملأ الفراغ. بعد ستين عاماً من إلغاء الأحزاب، وبعد أربعين عاماً من عودة التعددية الحزبية، ما زال الفراغ السياسى سيد الموقف. انتخابات البرلمان على الأبواب فيما القلق ينتاب أغلبنا خوفاً من فوز الإسلام السياسى حتى بعد حل أهم أحزابه، أو تخوفاً من سيطرة المرشحين الأفراد المستقلين على غالبية مقاعد المجلس، أما الأحزاب فكل الخوف عليها لكن لا خوف منها على الإطلاق. لم يفكر الضباط فى تبعات القرار الذى اتخذوه فى نشوة النصر وخضم الصراع على السلطة. فاز الضباط بالسلطة لكن مصر خسرت الأحزاب وتقاليد العمل الحزبى. أحزاب ما قبل يوليو 1952 كانت مليئة بالمشكلات، لكنها كانت قابلة للتطوير والإصلاح. لم يفهم ضباط يوليو أن المؤسسات السياسية وتقاليدها ليست كالمبانى يمكن إزالتها وإعادة بنائها حسب الرغبة. حاول هؤلاء تطبيق مبادئ الهندسة على النظام السياسى والاجتماعى، فاكتشفنا بعد فوات الأوان أن مبادئ الهندسة غير قابلة للتطبيق فى مجال المجتمع والسياسة. فى مايو 1960 اتخذ الرئيس جمال عبدالناصر قراراً بتأميم الصحف. لم يكن هناك سبب يبرر هذا القرار، فالصحافة كانت قد تم تدجينها قبل التأميم بكثير. يقال إن السبب الذى دفع عبدالناصر لتأميم الصحافة هو الخطأ الذى وقعت فيه جريدة الأخبار عندما صاغت خبرين منفصلين، فبدا كما لو كانا خبراً واحداً يقول «مقتل السفاح عبدالناصر فى باكستان». فى الحقيقة الخبران كانا منفصلين لكنهما جاءا متعاقبين، فسهل لمن فى نفسه غرض تفسير الأمر وكأنه «تلسين» مقصود من أصحاب الأخبار. خطأ الأخبار أو تحايلها كان يمكن معالجته بمليون طريقة، فالعدد تمت مصادرته، والأزمة تم احتواؤها، وبقى عبدالناصر زعيماً لم تخدش صورته. بعد تلك الحادثة بأقل من شهرين أصدر عبدالناصر قراراً بتأميم الصحف، فتم وضعها بالكامل ضمن ملكية الدولة تديرها وتعين رؤساء تحريرها وتتحكم تماماً فى سياسات تحريرها. لم يقل أحد إن الصحافة تم وضعها تحت سيطرة الدولة، وإنما قيل إن الصحافة أصبحت «ملكاً للشعب»، فهكذا صدر مانشيت «الأهرام» فى اليوم التالى لصدور القرار، أما «ناصر» فقد دافع عن القرار بدواعى السيطرة على الانفلات الحادث فى الصحف، مدللاً على ذلك بالصور العارية التى تنشرها البعض منها. أراد «ناصر» وضع الصحافة تحت السيطرة الكاملة للدولة لتصبح جزءاً من ماكينة إعلامية جبارة لتوجيه الشعب والرأى العام والسياسة المصرية فى الاتجاه الذى يريده. لم يكتف عبدالناصر بالتليفزيون والراديو المملوكين للدولة، فقرر ضم الصحف لآلته الإعلامية الضخمة. مرت السنون وانتهى زمن السياسة التعبوية، لكن الصحف التى تم تأميمها بقيت مملوكة للدولة. لم تعد وسائل الإعلام المملوكة للدولة قادرة على القيام بأى دور مهم لخدمة النظام -أى نظام- بل أصبحت عبئاً عليه. ملكية الدولة للصحف أهدرت المكانة المميزة للإعلام كأحد مكونات قوة مصر الناعمة. فشلت الدولة فى إدارة الصحف المملوكة لها، لكنها ما زالت تحتفظ بملكيتها. ملايين الجنيهات يتم ضخها كل عام لدفع مرتبات موظفين وصحفيين فى مؤسسات صحفية خاسرة فقط لأن الدولة لا تجد مخرجاً من الورطة التى وضعها فيها عبدالناصر قبل أكثر من ستين عاماً. قائمة القرارات العابرة التى تركت بصماتها على مصير الأمة طويلة يصعب حصرها. هل نحتاج لمن يذكرنا بقرار اتخذه السادات لإتاحة حرية العمل للإخوان والجماعات الإسلامية؟ كان السادات يواجه مشكلة محدودة مع الطلاب اليساريين فى الجامعات فأخرج الإسلاميين لمواجهتهم. حل الإسلاميون محل اليسار فى الجامعات، وحلوا محل الدولة فى كل مكان آخر، اللهم إلا الجيش والشرطة. ظل المجتمع والدولة يتراجعان أمام الإسلاميين لعقود حتى كادوا يسيطرون على البلاد كلها. الأزمة السياسية والحرب الراهنة ضد الإرهاب ما هى إلا محاولة لم يعد من الممكن تأجيلها لتصحيح الخطأ الذى وقع فيه السادات قبل أربعين عاماً. الأحزاب والإعلام والأيديولوجيات والعقائد مكونات مهمة فى ثقافة وشخصية الأمة وفى نظامها السياسى، لا يجوز التلاعب بها وفقاً لأهواء الساسة. الزعيم والقائد الحقيقى ليس ذلك الذى يغتر بقوته وذكائه وقدرته على المناورة فيكسب جولة الصراع ضد خصومه، لكنه ذلك الذى يستطيع أن يرى فيما وراء غبار المعارك وصخب التلاسن والصياح، ليس ليأخذ القرار الذى يخرج به من أزمة عابرة، لكن ليجعل وضع أمته ودولته أفضل بعد عقود من الزمان. لا أحد يختلف على مكانة محمد على وإبراهيم باشا وسعد زغلول؛ لأنهم من ذلك النوع من الزعامات، وهو النوع الذى نحتاجه بإلحاح فى هذا الزمن الصعب.