«متعة التعبير هى متعة حقيقية إن تذوّقتها»، هذه مقولة صحيحة جداً، وقالوا لنا أيضاً: «كلما كبر قاموسك ازددت قدرة على التعبير عن ذاتك». أشاركهم الرأى، لكن.. ماذا إذاً عن فن الاستماع؟! استيقظت وأنا أشاكس هذا السؤال صباح اليوم، فقد رافقنى فى كل طقوسى الصباحية، ولا أعرف لماذا اختلط عندى الجواب بوجوه الأطفال صغار السن فى هذه الدنيا، فهم -لا إرادياً- يمارسون فن الاستماع فى سنواتهم الأولى كأنهم ينزعون الستار عن الكلام شيئاً فشيئاً. فللتعبير أسرار كما يقولون، يتلقون دروسه ويمارسونها بصدق، فهم بوجوههم الملائكية التى تعرف جيداً كيف تتحدث إليك، يعرفون تماماً كيف يعبّرون، فتراهم يراقبون ويبتسمون ويغضبون.. هم دائماً مشاركون بكل شىء إلا الكلام، فهل تأملنا يوماً تعبيراتهم كسرٍّ من أسرار الكلام؟ للمعنى أسرار، والتعبير عنه فن، ومن هذا الفن تنبت متعة الكلام، فهل عرفنا حقاً كيف نمارس هذا الفن الذى يجعل حياتنا أكثر بساطة ودفئاً؟ سأَصْدُقك القول، نحن غالباً لم نتذوّق هذه المتعة فى شكلها الحقيقى. ستسألنى يا صديقى: ماذا تقصدين؟ أقول لك باختصار: إن كنت ترغب فى معرفة حجم ما نعانيه من عدم معرفتنا بهذا الفن فدَعْنا نخرج فى جولة سريعة لنرى كيف أصبح الواقع من حولنا، عند مَن نراهم ونتعامل معهم يومياً فى حياتنا. اسأل نفسك معى هذه الأسئلة: كم شخصاً ألقى عليك تحية الصباح اليوم من بين كل مَن قابلت؟ كم شخصاً مزج هذه التحية بابتسامة فى وجهك؟ كم شخصاً قدّم لك الشكر على موقف راقٍ صنعتَه معه؟ كم شخصاً تحدّث إليك بلهجة معتدلة ونبرة صوت خالية من التحدى أو إظهار القوة -والبلطجة أحياناً- عندما اختلفت معه اليوم؟ سأكون أكثر صراحة.. داخل بيتك أنت، كم شخصاً يتعامل وفق هذه المعايير بشكل دائم؟ وفق المعادلات الواقعية الحالية فإن النتيجة تقول غالباً إن الدروس التى تلقيناها -لا إرادياً- فى صغرنا لم تنجح بالشكل الذى يليق بنا، فنحن غالباً لم نعُد نتذكرها مع زحمة الحياة وأزماتها، وعلينا فقط إعادة إيقاظها؛ حتماً ستجعل حياتنا مختلفة كلما أدركنا معها «فنون التعبير الثلاثة». بدءاً من فن الاستماع، نحن فى كل ما يمرّ علينا من مواقف نتصور أننا كلما تكلمنا أكثر قوىَ موقفنا أمام الآخرين، وأصبحت لنا الغلَبة. ننسى دائماً أن الاستماع هو الطريق الوحيد للفهم الصحيح، وأنه يعطينا حقاً المهلة لنستوعب الأمور على حقيقتها قبل أن نردّ، فليس لعقلك ممرّ يحسن من خلاله اختيار الكلمات سوى الإصغاء حتى النهاية إن كنت تبحث عن قوة موقفك حقاً أمام الآخرين، وحتى لا تندم على شىء قلته أو تُضطرّ إلى الاعتذار عن المعنى بأنك لم تكن تقصده. أما فن التعبير بالكلام، فكلما كان الكلام من العقل كان أعمق وصولاً، وكلما كان من القلب كان أسرع وصولاً، وكلما خرج من اللسان فقط ولم يمر على هذين الشريكين وضعك فى قائمة المنتظرين إجابة واحدة: «أنت مخطئ». إذاً فلنختصر المسافة معاً: احرص على مرور كل ما تقوله على عقلك وقلبك قبل أن ينطق به لسانك، حتى تكون مقتنعاً تماماً بما قلت، وأن تعرف كيف تقوله بعيداً عن سوط التجريح والتحقير الذى يرفعه أغلبنا كلما اختلفنا فى النقاش. ولا تنسَ أن تخفض صوتك، لأنه كلما ارتفعت الأصوات بعدت القلوب؟ الضلع الثالث فى فنون التعبير هو هذا الذى أحبه وأعتبره الأقرب لقلوبنا؛ ما أجمل أن تزيّن به نفسك وتدفئ به الآخرين، إنه «التعبير الصامت»، فكثير من الأشياء لا يقال، وأنا أومن جداً أن كثيراً من المشاعر الإنسانية أكبر من أن تحتويها الكلمات، وعلينا أن نخلق لغة مساعدة لكلماتنا تعالج القصور فيها وتمنحها القوة والمصداقية والدفء. فالابتسامة رفيق جيد لك ولقاموسك، وستنقذك كثيراً وتمنحك القوة دائماً، فلا تخلعها عنك. أما لغة الأعين فهى مرآة قلبك، وسيعرف منها الجميع حجم صدقك، وهى لم تكن يوماً مجرّد جزء ملوّن يمنحك شكلاً مميّزاً، ولكنها خُلقت لتؤدى وظيفتين: الأولى لك، أن ترى بها ما حولك، والثانية لمن حولك، أن تُرِيَهم ما بداخلك، فللقلب وجه يسكن دائماً عينيك، فلا تُسكته. أما لغة الجسد فهى أن تعرف كيف تقول لشخص وأنت تربت على كتفيه: «ستكون بخير، فتماسك»، وأن تعرف متى تضمّ شخصاً لتخبره أنك بجواره ولن تتخلى عنه، وأن تعرف كيف تمنح جسدك حريته الحقيقية ليتصرف وَفْق إنسانيته فقط. هذا مثلث التعبير فى هذه اللغة التى إن حَلَلْتَ طلاسمها اختصرت المسافة بينك وبين الناس، وبينك وبين نفسك أيضاً، فتعلّمْها واستمتع بها، وكلما أصبح هذا المثلث أكثر اتساقاً كنت أكثر قدرة على التعبير عن نفسك، وأكثر نضجاً فى ممارسة الحياة.