زفت الصحف الخبر السعيد والبشرى السارة: وزارة الاستثمار خصصت 120 مليون جنيه لدفع أرباح تعادل أجر ستة شهور للعاملين فى ثمانٍ من شركات القطاع العام الخاسرة. يفهم من الخبر أن هناك قرارات أخرى مشابهة سيتم اتخاذها فى الأيام المقبلة، فالشركات الثمانى الخاسرة لا تمثل كل شركات القطاع العام الخاسرة، وإنما تمثل فقط الشركات الخاسرة التابعة للشركة القابضة للصناعة المعدنية. ولأن المساواة فى «الهطل» عدل، فإنه يحق للعاملين فى كافة الشركات الخاسرة الحصول على نصيبهم من الضرائب التى يدفعها أمثال حضرتك من الكادحين الحقيقيين الذين لا يكدحون فقط، وإنما ينجحون أيضاً، فتقوم الحكومة الرشيدة بمعاقبتهم مرتين، مرة عندما يدفعون الضرائب، ومرة أخرى عندما «تفقع مرارتهم»، فتدفع جزءاً من هذه الضرائب لآخرين لم يكدحوا ولم ينجحوا. حكومتنا ليست ساذجة لتبدد مواردها الشحيحة على من لا يستحق وفيما لا ينفع. لكن الحكومة مضطرة لقبول الظهور فى صورة «العبيط»، لأن البديل لذلك هو اعتصامات ومظاهرات يركبها الإخوان والفوضويون فى وقت تتجمع فيه المخاطر على البلاد من كل صوب. أو بعبارة أخرى فإن الموضوع كله عبارة عن ابتزاز وإتاوة يفرضها موظفو القطاع العام ليس على الحكومة ولكن على المجتمع كله، فنضطر للقبول بهذا الوضع المختل -هذا العام وكل عام- صاغرين طالما بقى ذلك الدمل الفاسد موجوداً، وطالما ظلت الحكومة عاجزة عن التعامل معه بما يستحق. حكومتنا الرشيدة تجهز لطرح مناقصة دولية تطلب بمقتضاها من شركات متخصصة تقديم المشورة وإعداد الخطط لإصلاح أحوال شركات القطاع العام الخاسرة، كما أنها تجهز لضخ ملايين إضافية كاستثمارات توظف لإخراج الشركات المتعثرة من أزمتها. لا أحب استباق الأحداث ولا أن أكون نذيراً، لكن لأن هذه ليست هى المرة الأولى التى تلجأ فيها الحكومة لمثل هذه الحلول دون جدوى، فإنه لا يوجد سبب واحد يدعو للاعتقاد بأن النتيجة ستكون مختلفة هذه المرة، فالسر ليس فى نقص الاستثمارات، فكم من الاستثمارات تم هدرها قبل ذلك، ولا فى نصائح العباقرة من الأجانب، ولكنه يكمن ببساطة فى أن هذه شركات قطاع عام وفقط، وأن الدولة عندما تتملك الشركات، فإنها تفعل شيئاً لا تعرف كيف تقوم به ولا هى مؤهلة له. الدولة تستخدم أموال دافعى الضرائب لدفع ليس فقط الأرباح وإنما أيضاً الأجور الشهرية لعمال عدد ليس قليلاً من شركات القطاع العام، لأن عائد أنشطة هذه الشركات أقل من أن يغطى تكاليف التشغيل. لو أن وضعاً مثل هذا حدث فى شركة خاصة لتم تخفيض عدد العاملين أو إغلاق الشركة أو بيعها، لأن المستثمر الرشيد لا يقبل بأن يدفع من ماله الخاص للإنفاق على مرتبات وأجور عمال وموظفين لا ينتجون ما يكفى لدفع أجورهم. لكن الدولة لا تدفع من مالها الخاص لكنها تدفع من أموال دافعى الضرائب، وهى لهذا ليست مستثمراً رشيداً، ويجب عليها أن تخلى مكانها بين المستثمرين. الدول لا تفلس ولا تصفى نشاطها إلا فى النادر جداً من الأحوال، لكن الشركات تفلس ويتم تصفيتها، والخلل يحدث عندما تتعامل الدولة مع شركات تملكها وكأنها جزء من كيان الدولة صاحبة السيادة لا يجوز لها أن تفلس أو يتم تصفيتها. بعض شركات القطاع العام تنتج أشياء لم يعد أحد يحتاجها، ولو كان القطاع الخاص يعمل بنفس المنطق لكان لدينا حتى الآن ورش ومصانع تنتج العربات الكارو وبوابير ولمبات الجاز والقلل الفخار والكلوبات وقربة السقا التى يستخدمها لتوزيع المياه على المنازل، ولكانت عجلة التقدم قد توقفت تماماً فى هذا البلد منذ زمن. العاملون فى الشركات الخاسرة يبتزون الحكومة عندما يهددون بالاضطرابات، وليس الإضرابات لأنهم لا يعملون أصلاً. مشكلة هؤلاء ليست مع الحكومة ولكنها مع الشعب كله. الوزير الذى يقرر دفع أجور وأرباح بلا مقابل لا يدفع هذه الأموال من جيبه، لكنه يدفعها من ضرائب دفعها ملايين الكادحين الذى يعملون فى أعمال حقيقية، دون أن يتمتع أغلبهم بجزء يسير من المميزات التأمينية والعلاجية والخدمات التى يتمتع بها العاملون فى القطاع العام، وعلى دافعى الضرائب التدخل لحماية ما يدفعونه من ضرائب من هذا الابتزاز والسفه. المطالبة بوقف هذه البلطجة ولو بالتصفية أو البيع ليس مطلباً لرجال أعمال أثرياء يريدون امتصاص دم الشعب، ولكنه مطلب لكادحين دافعى ضرائب يريدون للعدل أن يتحقق، ويرفضون أن تستخدم أموال تعبوا فى تحصيلها لتمويل آخرين لم يربحوا ولم يعملوا أصلاً، بمن فى ذلك مديرون كبار لشركات خاسرة، ينالون نصيبهم من الأرباح مثل باقى العاملين. هناك الآلاف من المصريين الذين يستطيعون تأسيس الشركات واقتحام كافة مجالات الإنتاج والخدمات مع استثناءات قليلة جداً، فلنترك لهؤلاء القيام بما هم مؤهلون له، ولتتفرغ الحكومة للقيام بالأشياء التى لا تستطيع أى هيئة أخرى القيام بها. فالدولة هى الهيئة الوحيدة فى المجتمع المؤهلة لتحقيق الأمن، وتوفير العدالة، وتطبيق القانون، وإدارة الاقتصاد الكلى، ومراقبة جودة وسلامة غذاء الناس ودوائهم، وجودة وسلامة السلع التى ينتجها المنتجون ويبيعها التجار، وتقديم الخدمات للفقراء على نطاق واسع، وتطوير نظام التعليم والتنشئة الوطنية، وتطوير نظام الرعاية الصحية ليشمل جميع المصريين. فإذا قامت الدولة بهذه الوظائف التى لا ينافسها فيها أحد، ولا يستطيع أحد غيرها القيام بها، لأتاحت الفرصة لإطلاق خيال ومبادرات الملايين من المواطنين فى مجالات الإنتاج والخدمات والابتكار، ولتوافرت فرص العمل والمساكن وارتفعت مستويات المعيشة دون حاجة من الدولة لتملك الشركات.