بمبادرة من لجنة الحقوق المدنية والسياسية التى يترأسها جورج إسحاق، العنصر البارز فى المجلس القومى لحقوق الإنسان، عقد المجلس أمس الأول ورشة عمل بعنوان «إنشاء مفوضية تكافؤ الفرص وحظر التمييز فى ضوء المادة 53 من الدستور». نشاط المجلس فى هذا الخصوص ليس هو الأول من نوعه، فمن ورائه جهد سابق استهدف إدماج مفهوم المواطنة فى تعديلات دستور عام 1971، ثم السعى إلى تفعيل هذا المفهوم الذى تضمّنته المادة الأولى بعد تعديلها فى 2007 من خلال سلسلة من المؤتمرات ذات الصلة من قبيل مؤتمرى المواطنة (1) و(2)، ومؤتمر العدالة والمساواة ومنع التمييز، ومؤتمر العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص. وقد تبنى المجلس فكرة إنشاء آلية مؤسسية تتولى التثبُّت من تحقق تكافؤ الفرص والمساواة أمام القانون وفى كافة الحقوق والواجبات، تلك الفكرة التى تم إدماجها فى دستور مصر عام 2014 بنص المادة 53 منه على إنشاء مفوضية مستقلة لمكافحة التمييز، وهى واحدة من أفضل مواد الدستور الحالى حتى لا أقول أفضلها فعلاً. فمن دون استحداث الآليات والأطر التنفيذية تظل النصوص الدستورية محلقة فى الفضاء منقطعة الصلة عن الواقع، ودساتير العديد من الدول التسلطية تنص على تكافؤ الفرص والمساواة فيما يتم احتجاز المناصب الرفيعة للخواص واستهداف كل مختلف، سواء فى الفكر أو فى المعتقد أو فى النوع أو فى القدرات الجسدية، بالتمييز. وفى ورشة العمل طرحت وزارة العدالة الانتقالية ومجلس النواب رؤيتها للإطار العام لمشروع القانون الخاص بإنشاء «مفوضية مستقلة لمكافحة التمييز ومبدأ المساواة»، وعرضها المستشار القانونى للوزارة محمود فوزى، وهذا تقليد جيد بإخضاع مشروعات القوانين -خصوصاً ما يمس منها قطاعات جماهيرية واسعة- لنقاش مجتمعى يسهم فى تطوير تلك المشروعات إلى الأفضل. ومن جانبه قدم المجلس القومى لحقوق الإنسان تصوره للقانون نفسه من خلال ورقة أعدتها اللجنة التشريعية ولعبت فيها الصديقة العزيزة منى ذو الفقار -التى تُعد بحق دينامو المجلس- دوراً أساسياً. وجدير بالذكر أن هذه الورقة مثلت جزءاً من الملف الذى قدمه المجلس للمراجعة الدورية الشاملة لأوضاع حقوق الإنسان فى مصر أولاً عام 2010 ثم عام 2014 بعد تطوير الورقة على ضوء المستجدات الداخلية وأهمها دستور عام 2014. من بين قضايا كثيرة شملها النقاش داخل الورشة يمكن التركيز على ثلاث قضايا رئيسة، تتعلق أولاها بنطاق الجهات التى تلتزم بالقانون، وقد عرّفها مشروع وزارة العدالة الانتقالية بأنها كافة الأجهزة الإدارية للدولة، والأشخاص القائمين على إدارة مرافق عامة أو تقديم خدمات عامة، والمنظمات الخيرية والأهلية. وكان اتجاه النقاش وكذلك المجلس هو أن من المهم توسيع نطاق تلك الجهات لتشمل النقابات والاتحادات وشركات القطاع العام والخاص على نحو لا يسمح لأى مسئول بالإفلات بإجراءات تمييزية غير مبررة، والمقصود بعدم التبرير ألا يكون التمييز مستنداً إلى طبيعة مقتضيات الوظيفة مثلاً من مهارات وخبرات خاصة. ويُذكر هنا أن النقاش ركز على تعقب التمييز غير المبرر فى أكثر مجالين يُستهدفان به، أى مجال التعليم ومجال العمل. وطالب البعض بأن يدخل مشروع القانون فى تفاصيل الضوابط الحاكمة لفرص التوظيف والتدريب، وقبل كل ذلك طالبوا بضرورة ضبط مفهوم التمييز نفسه، وهو ما أفاض فيه الفقيه القانونى الدكتور نور فرحات. القضية الثانية هى الفئات التى يُقترح أن يتم شمولها ببعض تدابير تصحح أوضاعها المختلة نتيجة عوامل مختلفة أهمها العوامل الثقافية، حيث ركز مشروع قانون وزارة العدالة الانتقالية على فئات النساء والأطفال والمعاقين، وأفرد مساحة مقدرة للتيسيرات المطلوبة لذوى الإعاقة فيما أحال على قانون العمل فيما يخص التيسيرات التى تتمتع بها المرأة العاملة. أما النقاش فقد سجل غياب المختلفين فى الدين أو المذهب عن الفئات التى من المطلوب أن يشملها التمييز الإيجابى، وذلك فى الوقت الذى تتصاعد فيه حملات الشحن الدينى والمذهبى وموجات الكراهية والتكفير. وعلى المستوى الشخصى فإن بين يدىّ ملفاً يسجل وقائع استهداف مسيحيى مصر بأعمال العنف بعد الموجة الثورية الثانية فى 30 يونيو 2013 أعدته المفوضية المصرية للحقوق والحريات، وفيه ما هو كفيل بإثارة قلق حقيقى على وحدة النسيج الاجتماعى المصرى وسبيكته الوطنية. القضية الثالثة التى توقف أمامها المجلس ملياً وكذلك الحضور هى المتعلقة بصلاحيات مفوضية مكافحة التمييز، تلك الصلاحيات حددها مشروع الوزارة فى تلقى شكاوى المواطنين، واقتراح ما يلزم من إجراءات لمواجهة التمييز غير المبرر بما فى ذلك طلب تعديل اللوائح والأنظمة والقوانين التى تشتمل على مثل هذا التمييز، والتحقق من سلامة تطبيق المساواة فى نطاق الجهات المشمولة بالقانون، ونشر ثقافة التسامح مع المختلفين والعيش المشترك والمساواة. أما الاتجاه الذى تبنّته ورقة المجلس فكان هو ضرورة تسليح المفوضية بعدد من الصلاحيات التى تتجاوز مجرد تلقى الشكاوى، خاصة أن هذا الدور مناط فعلاً بمكاتب الشكاوى فى المجالس القومية المتخصصة. تحدّث الحضور عن أظافر وأنياب للمفوضية، واستخدمت منى ذو الفقار تعبير «آلية للإصلاح المؤسسى» لوصف الدور المطلوب أن تؤديه المفوضية، وهذا يقتضى فى حالة ثبوت وقوع التمييز بعد التحقيق أن تكون للمفوضية صلاحية توقيع العقوبات. وفى مواجهة هذا الاتجاه فى النقاش كان هناك من حذّر من أن البدء بتوسيع صلاحيات المفوضية بما يتداخل مع صلاحيات أجهزة تنفيذية وتشريعية من شأنه أن يحكم عليها بالوفاة قبل أن تولد، وكان الرد أن وجود وزارات معنية بالبيئة أو التموين وما أشبه لم يحُل دون تأسيس أجهزة لحماية البيئة والمستهلك، بل كان دور تلك الأجهزة داعماً لعمل الوزارات التنفيذية. إن مناقشة مشروع القانون الخاص بإنشاء «مفوضية مستقلة لمكافحة التمييز ومبدأ المساواة» بالتعاون مع المجلس القومى لحقوق الإنسان هى خطوة أولى لمزيد من إنضاج المشروع وأخذ ملاحظات الآليات الوطنية (أى المجالس القومية) والرأى العام بعين الاعتبار. وأتمنى أن يبدأ تطوير المشروع بتعديل طفيف على اسمه ليكون «مفوضية مستقلة لمكافحة التمييز وإقرار مبدأ المساواة» لأن الاسم المطروح للتداول يفيد مكافحة المساواة جنباً إلى جنب مع مكافحة التمييز! أى عكس مقصد المشرّع على خط مستقيم.